توجه «الحاج على البنا» وزوجته، في بداية الستينيات، لمناجاة الله سبحانه وتعالى أن يرزقهما فرصة إنجاب «الولد»، فعلى مدى 4 سنوات متواصلة كانت الزوجة تنجب صبيًا كل عام فيختطفه «الموت»، فاستجاب الله لدعائهما وكشف ما بهما من ضر، ومنحهما «محمود» اللذان قررا أن يهباه لله ولحفظ القرآن، ليلحقاه بعدها بكُتاب قريته «شبراقاص» بالمنوفية الذي بدأت فيه رحلته مع القرآن. يحكى «البنا» عن تلك الحكاية التي أثرت فيه طوال حياته وجعلته «هبة أبويه لله»، فيقول خلال حوار إذاعى أجراه معه الإعلامي الكبير عمر بطيشة، في أواخر السبعينيات: « كان ليا أخوات كتير بيموتوا قبل مني، لذلك دعا والدى الله وقال إذا ربنا خلالى ابنى محمود هاوهبه للقرآن»، ما جعله يصف حرص والديه على إرساله ل «كُتاب القرية» بقوله: «اعتبرا تعليمى القرآن ندرًا لله». في سن 11 عامًا، تقدم «الشيخ محمود» إلى المعهد الدينى بشبين الكوم، الذي أعلن قبوله كل من يحفظ القرآن للالتحاق به، إلا أن مسئولى المعهد رفضوا طلبه بقولهم: «مش هنقبل أقل من 12 سنة»، ليتوجه بعدها إلى معهد المنشاوى في مدينة طنطا، الذي لا يشترط سنًا للالتحاق، وتعلم هناك أحكام التلاوة وقواعد النحو والصرف، وهناك أيضًا بدأت شهرته في التلاوة، إذ كان يطلب منه الشيوخ قبل الدارسين خلال استراحات الدروس: « اقرأ يا ابنى». كانت ميوله أدبية وكان دائما «بيسقط» في الرياضيات والهندسة والعلوم، بحسب ما رواه في حواره الإذاعي، تزامن ذلك مع تعيينه قارئًا للقرآن بمسجد «أحمد البدوي» خلال الفترة من 1959 وحتى 1980، ثم انتقل لقراءة القرآن في مسجد «الحسين» حتى وفاته، وسافر «البنا» لمختلف دول العالم وقرأ القرآن داخل المسجد الأقصى، والمسجد الأموي، والحرمين المكى والمدنى. يصف استقبال الشعوب الآسيوية له فيقول: « كانوا يأتون بزوجاتهم وأطفالهم من مسافات بعيدة للاستماع لي، ولكل المقرئين المصريين، لم يستقبلونا بالمصافحة فحسب بل بالورود أيضًا». وفى ماليزيا وخلال رئاسته للجنة تحكيم المسابقة الدولية للقرآن الكريم بكى «البنا» عندما توجه إليه شاب من الحضور. وتحدث إليه بعربية «مكسرة»: «قبلتنا الكعبة والأزهر». أثناء إحدى رحلاته في إندونيسيا حاصره المعجبون وأصروا على الاستماع إليه فلبى طلبهم وظل يقرأ 6 ساعات متواصلة، كما اقترح بعد «نكسة يونيو» أن يسافر على رأس وفد من الأزهر للدول العربية والإسلامية، لجمع تبرعات وإعادة بناء ما دمره العدوان، إلا أن الدولة رفضت طلبه آنذاك. ومن الحكايات المشهورة عنه أيضًا أن قارئًا سودانيًا فتن بأدائه وهو الشيخ «مهدى السوداني»، وكان يحرص على حضور كل حفلاته، يأتى بقدوم الشيخ وينصرف بانصرافه حتى صار كظله، وصار يقرأ مثله ويتكلم مثله وينشد ويتلو بنفس أسلوبه. كان يحيى ليالى رمضان في أبى ظبى والجزائر والكويت ويقول عن ذلك: « لا ينبغى على القارئ أن يقرأ في مكان واحد، فرسالة مصر والأزهر نشر القرآن في مختلف دول العالم الإسلامي». يقول عن ذكريات سفره للبلدان العربية في شهر رمضان، إن التليفزيون والإذاعة العراقية كانا يرسلان إليه «سيارة خاصة» لنقله من الفندق المقيم به في بغداد، ليقرأ القرآن قبل المغرب ثم يؤذن لصلاته، من داخل القصر الجمهورى هناك، أما الأردن فكان يسجل الحفل قبل صلاة العصر ثم تذاع الثامنة مساءً، فيما كان يؤم المصلين في صلاة التراويح على الهواء مباشرة بالكويت. في ليبيا وبعد اندلاع الثورة هناك كان يقرأ يوميًا لمدة نصف ساعة، ومن فرط عشق المستمعين لصوته همس له المذيع على الهواء بالاستمرار في التلاوة رغم مضى المدة المحددة. كان «البنا» ملمًا بفنون الموسيقى، والعزف على العود مع ترديد بعض الموشحات القديمة، وكان يرى ضرورة توظيف المقامات الموسيقية وأهمها «الصبا والنهاوند»، في قراءة القرآن الذي يضم آيات تبشير ووعيد ونذير وتشريع ما يتطلب «تطويع» كل مقام للتعبير عن دلالة كل واحدة منها. عرف عن الشيخ محمود انتماؤه للفكر الناصري، وإعجابه بأداء الرئيس جمال عبد الناصر وانحيازه للفقراء، لذا ظل محافظًا على تلاوة القرآن في بيت «الزعيم» خلال كل ذكرى لوفاته، وحظى على تكريم «ناصر» نفسه، إذ سلمه عام 1967 هدية تذكارية عبارة عن طبق من الفضة يحمل توقيع الزعيم. روت الكاتبة الصحفية آمال البنا، ابنة «الشيخ محمود» ذكريات والدها مع الزعيم جمال عبد الناصر، والتي بدأت بتلاوة الشيخ في عزاء «عبد الناصر حسين» والد الرئيس بمحافظة الإسكندرية، إذ دعاه «ناصر» بعدها للقائه في منزله بالإسكندرية، وشهد اللقاء إشادة «ناصر» وإعجابه بصوته في التلاوة المجودة والمرتلة، وطلب الرئيس من الإذاعة تسجيل المصحف المرتل للشيخ محمود على البنا مع كبار القراء. كان «البنا» الملقب ب «كروان القرآن» جميل الصوت والصورة، يجذب يوميًا عشرات الألوف من المستمعين حول ميدان «الحسين» بالقاهرة، كلما رفع الأذان من فوق «مئذنة سبط النبي». التحق في فترة «الأربعينيات» بفريق «المصارعة» بجمعية «الشبان المسلمين»، وعندما احترف التلاوة صارع في شهرته كلًا من مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد. سجل «البنا» المصحف المرتل والمجود للإذاعة المصرية، والمصحف المرتل لإذاعتى السعودية والإمارات، وكان من المناضلين لإنشاء «نقابة القراء»، واختير نائبًا لها عند تأسيسها عام 1984، كما حصل على وسام العلوم والفنون عام 1990، تقديرًا لمسيرته الحافلة التي لقب خلالها ب «الصوت الذي تحبه الملائكة».