المجهولون فى «دولة التلاوة» كثيرون والأسباب كثيرة فى مقدمتها: انتهاء «زمن السميعة»، وكثرة المقرئين، وتعدد نوافذ الاستماع والتلاوة، تلك «الإشكالية الأبدية» التى تجعل التفرقة بين «الغث والسمين» أمرًا صعبًا إلا عند من رحم ربى، وعند من استمع إلى الشيخ «شعبان الصياد» الذى تميز ب «حنجرة ملائكية» كفيلة بأن يسخر الله لها «الجبال يسبحن والطير». لم يكتف «الصياد» بحلاوة الصوت التى تزيد قراءة القرآن «طلاوة»، وتجعل أعلاه «مثمرًا» وأسفله «مغدقًا»، يعلو ولا يعلى عليه ويحطم ما تحته، بل زود تلك «الحلاوة» بعلم تام ودراية كاملة بمعانى القرآن، عبر دراسته وتدريسه للتفسير والفقه الحنفى وعلم الأحاديث، ما مكنه من منح كل آية نغمة سليمة تناسب معناها وتفسره، وجعله جديرًا بألقاب: «ملك الفجر، نجم الأمسيات الدينية، و صوت السماء». أواخر سبتمبر عام 1940 كان مولد «شعبان الصياد» بقرية «صراوة» التابعة لمركز آشمون بمحافظة المنوفية، فى بيت عاطر بتلاوة القرآن، فوالده امتلك صوتًا ملائكيًا عذبًا التقطته الإذاعة إلا أن القدر لم يمهله للتسجيل لها ليتوفى وقت أن كان عمر نجله «شعبان» 4 سنوات، ليأتى بعده ويقرر تكملة مسيرة «الوالد» التى انتهت فى البدايات. حفظ «الشيخ شعبان» القرآن الكريم كاملًا فى عمر 7 سنوات، ثم التحق بالمعهد الدينى الابتدائي، ومنه إلى المعهد الدينى فى مدينة «منوف»، ثم كلية «أصول الدين» بجامعة الأزهر بشعبة «العقيدة والفلسفة» والتى رفض العمل بها معيدًا لاستكمال رحلة «خدمة القرآن». بعد عودته من إحياء إحدى الليالى القرآنية، وكان لا يزال طالبًا بجامعة الأزهر، غلبه النوم محتضنًا كتابه داخل «صحن الأزهر» أثناء مذاكرته استعدادًا لامتحان فى اليوم التالي، ليراه على هذا الوضع الشيخ «المعجزة» مصطفى إسماعيل الذى قال لمن معه: «انظروا وتمعنوا فى هذا الشاب النائم أمامكم فإن له مستقبلًا عظيمًا فى دنيا تلاوة القرآن الكريم». تقدم «الصياد» لامتحان الإذاعة والتليفزيون عام 1975، الذى اجتازه بنجاح باهر، وشهد إشادة الموسيقار محمود الشريف بطريقة «أدائه النغمي»، ليتم اعتماده مقرئًا للقرآن الكريم فى إذاعة «البرنامج العام» مباشرة، دون المرور على إذاعات التلاوات القصيرة، كما كان معتادًا آنذاك. قبلها بست سنوات وتحديدًا عام 1969، فوجئ «الشيخ شعبان» بسيارات الشرطة تحاصر منزله، ليخرج من إحداها أحد ضباط «الحرس الجمهوري»، والذى سأله الشيخ عن سبب قدومهم فرد بقوله: «هناك أوامر من رئاسة الجمهورية بإحضارك لإحياء 3 ليالٍ بمحافظة بورسعيد، فى عزاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر». من الحكايات المرتبطة به ما رواه لأهل بيته أن صديقًا «قبطيًا» يعمل صيدلانيًا بمدينة «منوف» كان يذهب وراءه فى كل الليالى ويدعوه لتلاوة ما تيسر من «سورة مريم» التى قرأها بطريقة لم يسبقه فيها غيره ولا من جاء بعده. مما يحكى عنه أيضًا أنه أثناء تلاوته لسورة الإسراء بمحافظة كفر الشيخ، ومن شدة التجلى والروحانية التى أظهرها صوته، دخل «قبطي» إلى المسجد وصرخ بأعلى صوته: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله». وكان لإطلاق لقب «ملك الفجر» على الشيخ شعبان الصياد حكاية تقول إن الإذاعة اعتمدته لقراءة «قرآن الفجر»، كل ثلاثة أسابيع داخل مسجدى «الإمام الحسين والسيدة زينب»، لينتظره محبوه ومستمعوه فى تلك الأوقات ويأتوا من مختلف محافظات الجمهورية ليكونوا بحضرته وسط أجواء مسجدى «سبط النبى و المشيرة الكريمة». بعد حرب السادس من أكتوبر وعودة معظم أراضى شبه جزيرة سيناء، وقع الاختيار على «الشيخ شعبان» ليقرأ أمام الرئيس الراحل أنور السادات داخل مسجد «القنطرة شرق»، ليفاجئه «السادات» فور انتهاء تلاوته باحتضانه ويأمر له بجائزة فورية إعجابًا وتقديرًا لعذوبة صوته، وكما أحيى «الصياد» عزاء «عبد الناصر» دعى على رأس مقرئين آخرين لإحياء عزاء «السادات». وصى أحد المقرئين «المنافسين»، مسئولى الصوت داخل إحدى الليالى الرمضانية، بجعل «السماعات» تحدث صفيرًا أثناء تلاوة «الشيخ الصياد»، ليفاجئه الشيخ بطلبه إبعاد «الميكروفون والسماعات» ويقرأ القرآن بصوته فقط، وخلال إحيائه لإحدى الليالى داخل مسجد «سيدى عبد الوهاب الشعراني» بمنطقة «باب الشعرية» فوجئ مسئولو الإذاعة بعدم حضور الشيخ المبتهل ليطمئنهم «الشيخ شعبان»، ويؤذن بصوته لصلاة العشاء ويؤم المصلين ثم يقدم الابتهالات الدينية بنفسه. كما فتن صوت «الشيخ الصياد» مستمعى القرآن الكريم فى دولة إيران التى كانت تدعوه سنويًا لإحياء ليالى شهر رمضان بالعاصمة «طهران»، ويروى عنه أن الجمهور الإيرانى كان يحمل «الشيخ» فوق الأعناق من داخل المسجد إلى السيارة المخصصة له، فور انتهائه من التلاوة. «وفاة الشيخ شعبان كانت عيدًا» عبارة ليست إنشائية أو لتجميل الكلمات وإنما «حقيقة حدثت بالفعل»، ففى الأول من شوال، الموافق 18 يناير عام 1998، وبعد 4 سنوات من معاناته مع مرض «الفشل الكلوي» قبض «ملك الموت» روح «ملك الفجر»، ليعود مرة أخرى إلى مسقط رأسه ويدفن هناك.