لا تتعجب إذا سمعت يوما أن «الماء» قد تخلص من خصائصه المعهودة وما جرت العادة عليه ليختلط ب«الزيت»، فالتعجب ذاته سيتسلل إليك إذا حاول أحد إقناعك أن السلفية كمنهج والتصوف كآخر مضاد له، إذا لم يكن بحكم الخلافات الشديدة بين مشايخ الصوفية والسلفية التي تصل إلى حد تكفير كليهما للآخر، فبحكم تكوين كل منهما، بين العقل والقلب، يخرجان من منبع واحد وأنهما يمكن أن يندمجا، فحتى إذا كنت ترى استحالة ذلك، إلا أن آخرين رأوا إمكانية ذلك، مقدمين نموذجا خلعت فيه الصوفية سبحها، وبدلت ملابسها لترتدى جلبابا سلفيا، وربما أطلقت لحيتها أيضا، لتظل واقفا أمامها، متسائلا هل هؤلاء حقا صوفية أم سلفية أم رجعية صوفية أم تقدمية؟ التعجب من فكرة إمكانية الدمج بين المنهجين يرجع إلى طبيعة المنهجين، فمنهج السلفية الجامد الذي لا يعترف ب«العاطفة» إلا قليلا، يتعامل معك كإنسان آلى أقرب منك بشرا، وقد يخوضون الساعات الطويلة في الحديث عن هيئة النبى خلال صلاته، وكيف أن يدك يجب أن تصبح كذا وكذا، وعينك أين، وهيئة سجودك كيف، في الوقت الذي لن يخوضوا الوقت نفسه للحديث عن صلة ذلك القلب بمن يسجد ويركع له، على خلاف الصوفية التي تراك روحا هائمة في ملكوت الله، تحاول الوصول بك إلى فضائه، مركزة على القلب والروح بصورة تهمل فيها العقل بالطريقة التي تهمل بها السلفية القلب. متأثرة ب«الإخوان» تسعى للتقرب إلى الشيعة ثورة يوليو أجهضت محاولات «العشيرة» لتأسيس اتحاد عالمى يضم الجماعات الإسلامية ربما لم يكن يتصور والد رائد «العشيرة المحمدية» وهو يربيه على كتاب الله، ليتم حفظه في العاشرة من عمره، ثم يلتحق بعد ذلك للدراسة بالأزهر الشريف، أن نجله سيصبح رائدا لجماعة ليست كغيرها من الجماعات.. حيث تنظر «العشيرة المحمدية» إلى المتناقضات بعين التشابه، فتتأثر بالكل، وتقف منها على مسافة وسط- أو هكذا يقولون. إلا أن الشاب الذي تخرج في الأزهر، ودرس على يد كبار علمائه، وكان والده عالما أزهريا تأثر بجماعة الإخوان عند نشأتها، ونشر مقالات في جريدتهم، وكان جده أحد أكبر علماء المالكية، ومع ذلك كان مطلعا على الأدب الغربي، متقنا لعدة لغات، وترجم أشعارا من الألمانية إلى العربية.. ربما لو دقق أحد مع تلك التركيبة الغريبة لتنبأ بطريقته فيما بعد التي لم تكن تختلف في غرابتها عنه. ولد محمد زكى الدين إبراهيم عام 1916، في منزل بحى بولاق أبوالعلا، لوالد أزهرى معم يدعى إبراهيم الخليل بن على الشاذلى، وهو صاحب كتاب «المرجع»، الذي نشرت له سلسلة مقالات في جريدة الإخوان سنة 1932، أما جده لأمه فهو الشيخ محمود أبو عليان من تلاميذ الشيخ «عليش» شيخ مالكية عصره. في وسط تلك العائلة كان من الطبيعى أن ينشأ الشيخ محمد زكى إبراهيم على حفظ كتاب الله والعلوم الشرعية، فأتم حفظ القرآن في العاشرة من عمره، والتحق بمدرسة «درب النشارين الابتدائية»، ثم انتقل منها إلى مدرسة «نهضة بولاق الكبرى» وكانت من أشهر المدارس في ذلك الوقت. وبعد أن أنهى دراساته بها التحق بالأزهر فأخذ فيه المرحلة الثانوية، ثم مرحلة العالمية القديمة في الفترة ما بين 1926 إلى 1930، إلا أنه لم يكتف بكل ذلك، بل أحب المعرفة والاطلاع ووصل به ذلك إلى هضم كثير من معالم الثقافة الغربية، حيث تعلم الإنجليزية والفرنسية والألمانية، بل وترجم بعض قصائد الشاعر الألمانى «هاينى رش هايني» إلى العربية، إضافة إلى الفارسية. ثم انتقل إلى حقل الصحافة والأدب منذ أواخر العشرينيات- أي خلال فترة دراسته بالأزهر- وكان أبرز ما كتب فيها، مجلات «الأزهر، ومنبر الإسلام، واللواء الإسلامي، والمسلم، والخلاصة، والعمل، والرسالة الإسلامية، والتصوف الإسلامي، وجريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، والسياسة الأسبوعية، والنهضة الفكرية، والفجر، وأبولو وعقيدتي، والأخبار، والأهرام، والجمهورية». وخلال تلك الفترة بدأت فكرة إنشاء جماعة أو جمعية تسعى إلى التقريب بين الطوائف الإسلامية، فأسس العشيرة المحمدية عام 1930، إلا أنها لم تتبلور ويظهر منهجها بشكل مفصل سوى في الخمسينيات، عندما أطلق مجلة «المسلم» الخاصة بالعشيرة، وتزامن مع ذلك إنشاء اتحاد عالمى بين عدد من الجماعات الإسلامية آنذاك، يقول عنه «إبراهيم» في أحد كتاباته: في الخمسينيات أمكننا أن نجمع الجماعات الإسلامية في اتحاد كان يرأسه المرحوم اللواء عبدالواحد شبل بترشيح المرحوم اللواء صالح حرب، وكان يمثل الشبان في هذا الاتحاد الاستاذ الناغي، ويمثل الإخوان حلمى نور الدين، والجمعية الشرعية الشيخ أمين الخطاب، ويمثل جماعة الإصلاح توفيق عبدالقادر، ويمثل جمعية المحافظة على القرآن الشيخ المنصوري، ولم يشذ عن الاتحاد إلا الجماعة السلفية كشأنها المعروف، وكان لهذا الاتحاد أثر كبير وصوت عالمي، وفى عهده عقد أول مؤتمر عن المرأة في الإسلام، بدار الإخوان في الحلمية، ثم كانت ثورة يوليو فانفرط العقد، وهو ما يقول عنه «بقينا نحاول استعادته فكانت المذهبية المشبوهة والتعصب البغيض المنسوب للسلفية والوهابية». أما موقف «العشيرة المحمدية» من الشيعة، فلم يكن يختلف عن موقفها من باقى المذاهب، حيث كانت العشيرة المحمدية، واحدة من أبرز من يدعون إلى التقريب بين المذاهب، وهو ما قال عنه رائد العشيرة في إحدى رسائله إلى أحد تلاميذه: «أهل القبلة جميعهم إخواننا، فلا خصومة شخصية أبدا بيننا وبين أي مذهب من مذاهب أهل «لا إله إلا الله»، سواء كانوا أحنافا أو مالكية أو شافعية أو حنابلة أو ظاهرية أو هادوية أو زيديين أو إمامية أو سلفية، فإن الاختلاف في الفروع ضرورة طبيعية، كما يستحيل استحالة مادية جمع الناس كلهم على مذهب واحد، أو رأى واحد، في مسائل ظنية هي دائما موضع نظر واجتهاد بالفطرة، وما دام مرجع الجميع كتاب الله وسنة رسوله، ونحن مع إمامنا جعفر الصادق في قاعدته العلمية حسبنا من المسلم ما يكون به مسلم»، وبحسب ما يراه الشيخ زكى إبراهيم، فالخلاف على الفروع طبيعة كانت وستبقى، ما دام هناك اختلاف في العقول والتحصيل والفهم والبيئات والاستعدادات والقابليات والنفسيات والوراثيات، وعلى هذا الأساس ننظر إلى مذاهب المسلمين فنحترمها ونقرب بالتوسط واليسر والاعتدال فيما بينها، ونربطها جميعا برباط لا فتنة فيه، ولا تفرقة ولا ضلال. في عام 1998 تولى محمد عصام الدين زكى إبراهيم رئاسة مجلس الإدارة، فيما توفى رائد العشيرة في 10 يوليو 2008 عن عمر يناهز 91 سنة، وفى 2011 أسست العشيرة لمؤتمر ضخم برعاية وزارة الأوقاف المصرية تحت عنوان «التصوف منهج أصيل للإصلاح»، حضره الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية آنذاك، ووزير الأوقاف الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى وقتها، والدكتور عبدالهادى القصبى شيخ مشايخ الطرق الصوفية. رائد «العشيرة» يدافع عن «ابن تيمية» ويهاجم «الوهابية» على الرغم مما ينسب إلى الشيخ ابن تيمية من تشدد، وكون آراؤه منبعًا رئيسيًا للفكر المتطرف، إلا أن العشيرة المحمدية دافعت عن ابن تيمية دفاعا أشد من الجماعات السلفية عنه، وهى في ذلك تنفى عن ابن تيمية أن يكون فكره داعيًا للتطرف، بل ترى أنه رفض ما وصفته ب«هيستريا التكفير»، وواجه ظاهرة تكفير أي ممن يشهدون أن لا إله إلا الله. رائد العشيرة الشيخ محمد زكى إبراهيم، يقول في أحد كتاباته مدافعًا عن ابن تيمية: «بمناسبة شيوع هيستريا تكفير المسلمين وتبديعهم، وتشريكهم وردتهم وتفسيقهم أحياء وأموات، من قبل العاملين باسم ما يسمى السلفية، الذين يعتبرون كل المسلمين من غير جماعتهم إما مشركا أو كافرا أو مرتدا أو وثنيا، فحن نقدم لهم نصوصا من كلام إمامهم الأعظم أحمد بن تيمية، إذا كان لم يقنعهم حديث رسول الله الذي قدمناه، حيث يقول ابن تيمية «من البدع تكفير الطائفة وغيرها من طوائف المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم، وهذا الأمر عظيم». كما نقل الشيخ زكى إبراهيم، عن ابن تيمية قوله بأنه من أشد الرافضين لنسب «معين» إلى كفر. إلا أن دفاع الشيخ «إبراهيم» عن ابن تيمية لم يمنعه من الهجوم على الوهابية، معتبرًا أنها منبع كل تطرف، حيث يقول فيما نقله عنه تلاميذه بمجلة دراسات التصوف: «عقب ثورة يوليو، بدأت تظهر المذهبية المشبوهة، والتعصب البغيض المنسوب للسلفية والوهابية. وقد ثبت كيف أن هذه الجماعات المتعصبة هي روافد الأفكار المنحرفة والمتطرفة، وأنها جديرة بالشبهة وسوء الظن، فإنها تمهد لدعوة معينة، وتتلقى وحيها من جهة بذاتها، وولاءها لغير وطنها». هاجمت صوفية «البدع» وسلفية «التكفير» والمؤسس: لسنا إلى هؤلاء منبع المنهج واحد والخلاف أحدثته السياسة.. والشيخ المؤسس: كل صوفى سلفى وليس العكس خرج من عباءة «العشيرة المحمدية» أبرز العلماء الحاليين، وعلى رأسهم الدكتور على جمعة، مفتى الديار المصرية السابق، والدكتور أسامة الأزهرى، مستشار الرئيس الدينى، والدكتور محمد مهنا، مستشار شيخ الأزهر. وغيرهم من تلاميذ الشيخ الرائد محمد زكى إبراهيم، مؤسس العشيرة المحمدية، الذين يلخصون منهجه. وجاء في العدد السادس في المجلة الدورية التي تصدر عن «العشيرة المحمدية»، التي تضم بعض الدراسات الخاصة بالصوفية، أن تلاميذ الشيخ المؤسس للعشيرة المحمدية يرون أن التقريب الذي تدعو إليه العشيرة لا يعنى ذوبان منهج الصوفية في آخر، وإنما إزالة الشوائب التي لحقت بكل منها، ومن ثم سيتضح للجميع أن تلك المذاهب خارجة من منبع واحد، قائلين: «حين ننقى التمسلف من اندفاعه ومجازفته وتهوره وتوقحه، وننقى المتصوف من مستغفله ومدسوسه وانحرافه، فلن نجد بين التسلف والتصوف خلافًا أبدًا، فلا يمكن أن يكون صوفيًا ما لم يلتزم الكتاب والسنة على نهج السلف الصالح، ولا يمكن أن يكون سلفيًا من لم يلتزم الورع والزهد والتوكل وغير ذلك مما اتسم به الصوفية». ويوضحون، «فالتصوف يخضع من هذا الجانب إلى النظر العقلى، ويبقى جانب الوهب أو الذوق أو الوجدان، بوصفه ثمرة تهذيب النفس بالشريعة وتربية القلب بالطريقة (أي الإيمان)، فهو لا يخضع للنظر العقلى، ولكن لا يعنى ذلك أنه ليس منضبطًا من الناحية العلمية. كما يظن البعض، ممن اعتقدوا أن التصوف هو الجانب العاطفى في الإسلام، إذ أن المذهب العاطفى أدنى مرتبة من المذهب العقلي «يمثل مرحلة من مراحل التراجع في تاريخ الفكر البشري». ويقول الشيخ الرائد محمد زكى الدين إبراهيم، في إحدى رسائله إلى تلميذه التي جمعتها العشيرة عام 2011 في كتاب تحت اسم «يا ولدي»: «التصوف الشرعى هو التسلف الإسلامى والعكس، لا فرق في الأصل بينهما أبدًا، فكلاهما دعوة أخلاق أو ربانية أو مجاهدة أساسها القرآن وما صح عن رسول الله، الذي يراجع إسناد كبار علماء الحديث الشريف لا يوشك أن يجد فيهم واحدا إلا وهو موصول السند بالسادة الصوفية. أما موقف «العشيرة المحمدية» من الطرق الصوفية فيوضحه الشيخ زكى إبراهيم، قائلًا: «من الحق أن نفرق بين التصوف والتمصوف، فالتصوف هو الإسلام الإيجابى الشامل في أرقى مراتبه، وان اختلفت الأسماء والمسالك، فكلها تبدأ بالتوبة وتنتهى بالمعرفة، أما التمصوف فهو ذاك الشبح الدخيل، الذي أساء إلى الإسلام وأهله، وما زلنا نعانى منه حتى الآن، ثم لندع هنا أهل التصوف الفلسفى ورجاله فلهم مجال آخر إنما نتحدث عن التصوف الخلقى والتعبدى والإنساني». ويجب أن تتأكد من أن ما عسى أن تجده في التصوف الواعى المستنير أحيانا بما قد يشبه الانحراف في ظاهره، فهو إما مؤول لا محالة، أو مدسوس على أهل الله، فمن قال إن هذه البدع والمنكرات الصريحة وهذا الانحراف المخزى هو من التصوف الصحيح، فقد ضل وغوى، ونحن نخدم بكل طاقتنا هذا التصوف الحق المنقى من الزيف والزيغ، وإليه ندعو بقدر ما نكافح هذا المتصوف الوقح بما فيه من جهلوت وكهنوت. ولم يختلف موقف أتباع «العشيرة المحمدية» من السلفية، وهو ما يقول عنه الشيخ المؤسس: «نحن حين ننقى التصوف من مستغفله ودخيلة وننقى التسلف من اندفاعه ومجازفته وتهوره وتوقحه وتنطعه، إذا نقيناهما هكذا فلن تجد بينهما خلافا أبدًا». ويتابع: «إننا نفرق بين التسلف والتمسلف، وقد قررنا أنه لا فرق في الأصل بين التسلف والتصوف، فكل صوفى سلفى أصلًا، وقد لا يكون العكس، أما التمسلف فهو التهور، والتوقح الذي ينقل أحكام الحلال والحرام إلى الإيمان والشرك، والذي يحكم مجازفة على كل كل أهل القبلة بالشرك والكفر والردة، ثم هو يعمى عن الخير ولا يتتبع إلا المناقص والعيوب في شعوبية وعصبية مجنونة، ولا يأخذ الأمور إلا من وجهها المظلم. تُعرِف العشيرة المحمدية نفسها بأنها هيئة دينية روحية ربانية بحتة، غايتها إلهية ووسيلتها روحية، وأنها «الجامعة الصوفية الإسلامية العالمية»، هدفها تصفية التصوف الإسلامية وتنقيته وترقيته وتطهيره وتحريره ورده إلى نبعه القرآنى والمحمدى الأول، وتبصير الناس بحقائقه الكبرى، وأصوله، دون الانحياز إلى طريقة بذاتها، فهى ترى أن «العشيرة للجميع»، ودعوتها «تُجمِع»، عن «العشيرة المحمدية» يقول مصطفى زهران، الباحث في الشأن الصوفى: سعت العشيرة المحمدية إلى تربية قيادات وكوادر، ومجمل القيادات التي تتصدر المشهد الحالى تخرجوا في مدرستها، فالعشيرة المحمدية أقرب إلى الأكاديمية العلمية، ولم تراهن في أي وقت من الأوقات على الانتشار، بقدر ما راهنت على تربية الكوادر، وهو ما نجحت فيه». أما فيما يتعلق بعلاقة العشيرة بالسياسة، يقول «زهران»: خاضت العشيرة المحمدية صداما مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي سعى إلى تطويق التيارات الإسلامية بما في ذلك الصوفية، وضعف وضعها في عهده، وهى الآن قاصرة على العلم الشرعي، وبعيدة عن السياسة. النسخة الورقية