كتبت على إثر انشقاق المنشقين عن الوفد المصري وإرغامهم على محاربة سعد باشا رئيس الوفد، تنفيذًا للإرادة الإنجليزية التي كانت متألمة أشد الألم من صلابة الزعيم وعناده في التمسك بحقوق الوطن. إن القلب يرتعد خوفًا وفرقًا، أسمع قعقعة في جوف السماء، فهل هي نذير العاصفة التي يريد الله أن يرسلها علينا، أرى الوجوه شاحبة، والعيون حائرة، والجباه عابسة، فهل شعر الناس بويل مقبل انقبضت له صدورهم، واقشعرت له جلودهم؟ ما هذا المنظر المرعب المخيف؟ ما هذه الضوضاء المرتفعة بالمجادلات والمناقشات في المجتمعات العامة والخاصة؟ ومن هم هؤلاء الذين يتصارعون، ويتجاذبون، ويبغي بعضهم على بعض؟ إن كانوا مصريين فويل لمصر وأهلها ومستقبل الحياة فيها بعد اليوم، هذا هو شأن الأمم البائدة في أدوار سقوطها واضمحلالها، وفي ساعة وقوفها على حافة الهوة العميقة. لقد ظننت في ساعة من ساعات حياتي أنني قد أمنت على مصر أبد الدهر، وكان قلبي يستطير فرحًا وسرورًا كلما سمعت تلك (الجوقة) الموسيقية الجميلة تتغنى في أرجائها بنغمة واحدة وتوقيع واحد، وكنت أصغي إليها بسرور واغتباط إصغاء العاشق المفارق إلى تغريد الحمائم المترنمة فوق أفنانها، ثم ما لبثت أن شعرت أن النغمة قد اختلفت، والتوقيع قد اضطرب، فذُعرت وارتعت، ورفعت رأسي فإذا أنا في “,”بيزنطة“,” وإذا الناس جميعًا في كنيسة “,”أياصوفيا“,” يتناقشون ويتجادلون جدالاً شديدًا في مسألة الطبيعة والطبيعتين، وأبواب المدينة تقعقع تحت ضربات معاول العدو فلا يسمعون لها صوتًا!. كنا جميعًا، وكان الشمل منتظمًا، وكان كل ما يعزينا عن بؤسنا وشقائنا منظر تلك الوحدة الجميلة التي كنا نشرف على روضتها الزاهرة الغناء من نوافد سجننا فتهون علينا همومنا وآلامنا، ولم يكن منظر في العالم أجمل ولا أبدع من منظر تلك الدموع الرقراقة التي كانت تتلألأ في عيوننا جميعًا، لأنها كانت في الحقيقة دموع السرور والاغتباط باتحادنا واتفاقنا، ووحدة كلمتنا، وقوة جامعتنا. لا تزال العاصفة تدوي وتعصف، ولايزال البناء يضطرب ويهتز، فليت شعري هل يتماسك ويعود إلى سكونه واستقراره؟ أم قدر له السقوط كما قدر لأمثاله من الأبنية في عهود التاريخ الغابرة؟ ها هو سعد باشا يمسك البناء بيده أن يتداعى ويتهدم، ولكنه قد تعب جدًا، ونال منه الجهد والنصب، لأن الحمل ثقيل ولأن الهادمين من خصومه المصريين معتزون بالقوة الأجنبية وهي فوق طاقته واحتماله، فهل تستطيع الأمة أن تمد يدها إليه وتعينه على عمله الشاق؟ هنالك قوتان هائلتان جدًا، قوة العدو الخارج مستترة، وقوة العدو الداخل ظاهرة، وهما تعملان معًا بنظام واحد، وفكر واحد، هو أن تسلمنا أخراهما لأولاهما، فلنزحف إليهما بقوة أعظم من قوتهما شأنًا، وأجل خطرًا، وهي قوة العقيدة الراسخة، والإيمان الثابت، والثقة بالنفس، والأمل الواسع، والثبات على المبدأ، نظفر بهما معًا، ونقض عليهما جميعًا، فلا يبقى لهما عين ولا أثر. إن الساسة الإنجليز يريدون أن يمزقوا شمل وحدتنا الوطنية التي بذلنا في سبيلها الشيء الكثير من ذات أنفسنا وذات أيدينا ليستثمروا شقاءنا وآلامنا فهل نسمح لهم بذلك؟ لا، فقد أصبحت الأمة غير الأمة، والعقول غير العقول، والأفهام غير الأفهام، وليست هذه النهضة التي نهضناها اليوم ترديدًا لأصوات القائلين، أو تقليدًا لحركات الناهضين، أو فصلاً تمثيليًا، أو لعبة بهلوانية، وإنما هي عقيدة راسخة في النفس رسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، فليطلبوا لهم صفقة غير هذه الصفقة، وفي سوق غير هذه السوق، فما نحن بسلع تباع وتشترى، ولا بمأدبة عامة يهوى إليها الغادون والرائحون. إننا لم نجاهد يوم جاهدنا من أجلهم، بل من أجل وطننا، ولم نغنم في معاركنا التي أدرناها هذه الوحدة الشريفة لنضعها يوم نظفر بها في أيديهم، يمزقون شملها، ويشوهون صورتها، ويلعبون بها لعب الصوالج بالأكر. محال أن نسمح لهم بها طائعين مختارين، فهي حياتنا وروحنا، وأثمن ما تملك أيدينا، وخير ما استفدنا من جهادنا، بل كل ما استفدناه منه، وسنذود عنها ذود الأم الرؤوم عن واحدها، والعذراء العفيفة عن عرضها، وسنبذل في سبيل استبقائها في أيدينا فوق ما بذلنا في سبيل الحصول عليها. ليس من السهل علينا ولا مما تحتمله أطواقنا أن يتحدث الناس عنا – وقد بدأوا يتحدثون- أن تلك النهضة التي نهضناها إنما كانت رواية تمثيلية خلبنا بها عقول المتفرجين ساعة من الزمان، حتى إذا نزل الستار عليها إذا الوجوه الوجوه، والصور الصور، وإذا الداء القديم والمرض العضال. إن الشرق لم يشق بالجهل ولا بالضعف كما يقولون، فقديمًا عاش الضعفاء والجهلاء أحرارًا مستقلين بفضل اتحادهم وقوة جامعتهم، بل لأنه يوجد في كل شعب من شعوبه أمثال هؤلاء الأقوام الذين ابتلينا بهم في مصر خبثاء الأغراض والمقاصد، موتى العواصف والمشاعر، لا يتألمون إلا لأنفسهم، ولا يبكون إلا على نقص في أموالهم وثمراتهم. والشعب المصري أول شعب شرقي نهض نهضة سياسية في هذا العصر، ثم مشت الشعوب الشرقية بعد ذلك على أثره، فيجب أن يكون أول شعب يعرف كيف يمحق الدسيسة الكامة بين أحشائه، لتتعلم منه الشعوب الأخرى كيف تمحق الدسائس الكامنة بين أحشائها فيعود بالفخرين، ويلبس التاجين. إنا لا نريد أن نحارب المنشقين والخارجين، فالقوة التي لا قبل لنا بها من ورائهم تحميهم، ولا أن نجادلهم، فإن لهم تحت جلدة وجوههم ذخيرة من السماجة والصفاقة كافية لإنكار أن الأرض أرض، والسماء سماء، وأن هناك فرقًا بين لون الليل ولون النهار، بل نريد أن نقي أنفسنا شر دسائسهم ومكائدهم، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا أعرضنا عنهم، وصنا أنظارنا عن رؤية وجوههم، وأسماعنا عن سماع أصواتهم، كما يتعوذ المتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن فعلنا فقد انتصرنا انتصارًا عظيمًا لم نوفق إلى مثله في جميع أدوار تاريخنا من عهد “,”سيزستريس“,” حتى اليوم، وإلا فما خلق الله في العالم خلقًا أهون على الله وعلى الناس منا.