إن هذا الكون الهائل العجيب. بما فيه من كواكب وأبراج. وأرض فسيحة الأرجاء. وكنوز مخبأة تحت أديم هذه الأرض.. إن هذا الكون بقواه الغلابة. وأسراره المرهوبة. ونواميسه العملاقة. وطاقاته الجبارة إن هذا الكون الذي لا يملك البشر معه إلا أن يكتشفوا فيه جديدًا. أو يحاكوا فيه موجودًا. إن هذا الملكوت الواسع بأرضه وسمائه. بأساطيله وطائراته. وجيوشه وقواته. في قبضة المهيمن الجبار. ورهن إشارة الكبير المتعال. بكلمة واحدة ينهار. وفي لحظة عابرة يندك فيه كل شيء !. في بدء الخليقة "ثُمّ اسْتَوَيَ إِلَي السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانى فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ" "سورة: فصلت - الأية: 11". وفي نهاية الحياة التي لا يعلم موعدها سواه. تتشقق هذه السماء وتنفطر وهي مستسلمة طائعة خاضعة لإذن ربها ومشيئته. ويختل نظام الكواكب السيارة. وتتمدد هذه الأرض وتنشق ملقية ما فيها من أموات وكنوز ومعادن ودفائن وثروات. وحينئذ يعود هذا الإنسان الكادح الذي أمضي حياته في تعب ونصب من أجل أن يضمن ضروراته الأربع من طعام وملبس وشراب ومسكن. إذ لم يكن في الجنة ألا يجوع ولا يعري. ولا يظمأ ولا يضحي. وكان عليه في الدنيا أن يكدح ويشقي في تحصيل ذلك بدنيًا أو ذهنيًا. يعود هذا الإنسان الكادح إلي ربه وكأنه كان يكدح ليتغلب علي عقبات الطريق إلي الله. وهناك يحاسبه ويسأله: فيم كان هذا الشقاء؟ هل كان في إطار الرزق الحلال والإنتاج الطيب مسترشدًا بوحي السماء فيما يكد فيه ويكدح. منفقًا ما حصله من هذا الشقاء فيما يفيد وينفع ؟ أم كان متكالبًا علي حطام الحياة من أي سبيل كان. لا يهتم بالحلال والحرام. معرضًا عن تعاليم الله. مسرفًا مترفًا بطرًا مفسدًا منفقًا هذه الأموال في طريق اللهو والمظاهر الكاذبة. "إِذَا السّمَآءُ انشَقّتْ*وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقّتْ*وَإِذَا الأرْضُ مُدّتْ*وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلّتْ*وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقّتْ*يَأَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحى إِلَيَ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ" "سورة الانشقاق 1 - 6". وحين اللقاء. وفي موقف العرض والحساب. تذوب النفس ترقبًا وانتظارًا. ويضطرب القلب من الأهوال اضطرابًا. وتتجه الأنظار كلها في تلهف وتحرق إلي تلك الصحائف المتطايرة. وإلي تلك السجلات الصادقة التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة في حياة المرء إلا سجلتها وأحصتها. حتي ما كان يهتف به هذا الإنسان من قول ينافق به. أو ألفاظ يتلهي بها: "مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلي إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبى عَتِيدى" "سورة: ق - الأية: 18". فأما المحسن الذي انتفع بعمره واستغله فيما يفيد نفسه ودينه ومجتمعه. فيعطي كتابه بيمينه مكرمًا معززًا منشرح الصدر مسرور النفس. لا يناقش فيما أتي به من هفوات وهنات. وينقلب إلي أخوة له في العقيدة والدين يأوي إليهم في جنة الرضوان كما يأوي المرء إلي أهله وذويه فرحًا مسرورًا "فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ*فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً*وَيَنقَلِبُ إِلَيَ أَهْلِهِ مَسْرُوراً" "سورة: الإنشقاق - الأية:1. 9". وأما هذا المفرط المفسد الذي آثر الشقاء في سبيل الشيطان. فتنتهي فترة الترقب والتلهف عنده بالعبوس والكمد والحزن الرهيب. سيتناول كتابه - يائسًا ضجرًا - بشماله ومن وراء ظهره. وسيقرأ فيه ما قدمت يداه. فلا يجد أمامه إلا أن ينادي علي الويل والثبور أن يسرع إليه. فالهلاك نفسه يصير الآن عنده أملاً للنجاة مما ينتظره من نار السعير التي لا نهاية للهيبها. إنه كان في حياته وبين أنداده وعشيرته مسرورًا بما أوتي. فرحًا بما حصله من حرام. سادرًا في غوايته. يسرف ويبذر وكأنه لا حساب. لا يخطر علي باله لحظة العودة إلي الله والمثول أمامه للنقاش. ولقد كان كتابه يسجل عليه ما يقول وما يفعل "وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ*فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً*وَيَصْلَيَ سَعِيراً*إِنّهُ كَانَ فِيَ أَهْلِهِ مَسْرُوراً*إِنّهُ ظَنّ أَن لّن يَحُورَ*بَلَيَ إِنّ رَبّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً" "سورة: الإنشقاق الأية:10. 15". هذه مسيرة الإنسان. وهذا مصيره مهما انتفخ واغتر وأوتي من متع الدنيا وزخارفها ومظاهرها الخادعة. التي تخيل للمرء أنها دائمة. وأنها قد أتت إليه عن علم وكفاءة واستحقاق. مع أنها رهن إشارة القدر الذي يسير كل حركة في الكون.. إن الذي يطوي ضوء النهار. ويبدل حاله إلي شفق أحمر. وليل أسود وبدر منير. وإن الذي يعلم ويدبر ما يطويه الليل من أسرار وشئون. وما يحمله من مشاعر وأحاسيس. إن الذي دبر كل ذلك هو الذي قدر أحوال البشر: من صحة ومرض. ومن ضعف وقوة. ومن فقر وثراء. وسعادة وشقاء. كلها طرائق وأطباق. وأحوال يركبها الإنسان في تلك الحياة طبقًا بعد طبق. بأمر المشيئة الإلهية الكبري. التي تدبر حركة الكون بأجمعه.. "فَلاَ أُقْسِمُ بِالشّفَقِ*وَاللّيْلِ وَمَا وَسَقَ*وَالْقَمَرِ إِذَا اتّسَقَ*لَتَرْكَبُنّ طَبَقاً عَن طَبقي" "سورة: الإنشقاق - الأية:16. 19".