سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بالصور.. المجاعة تقضي على ثلث الشعب اللبناني بالعهد العثماني.. ومنطقة الجبل الأكثر تضررا.. دولة الخلافة التركية ساهمت في تخلف العالم الإسلامي عن ركب الحضارة الأوروبية..
ظل لبنان كسائر الأقطار العربية نحو خمسة قرون متوالية تحت سلطان الدولة العثمانية، وكانت مواكب الحضارة تتزاحم في بلدان الغرب والأقطار العربية الخاضعة لولي الأمر العثماني يخيم عليها غطاء من التراخي والانحلال في كل مناحي الحياة. كان العهد العثماني بالنسبة للتطور التاريخي لبلدان شرقي المتوسط عصر إنحطاط اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي، وكان نسيجًا من المظالم والخيانات والمجازر والحروب ما بين الباشوات والأمراء والعائلات الحاكمة المحلية. وعانى لبنان من ويلات الحرب العالمية الأولى وأهوالها الكثير، فقد اغلق طريق البحر، وقلت البضائع وخلت الأسواق من ضروريات الحياة، وإرتفعت الأسعار ارتفاعا جنونيا، وبرز شبح المجاعة المخيف في شتاء 1916 وتفاقم خطره في السنتين التاليتين، فكانت البأساء والضراء شاغل الناس وعنوان الأيام، وطالت معظم مناطق بلاد الشام بدرجات مختلفة، وكان أشدها وقعًا في مقاطعات جبل لبنان. وفصول المجاعة في لبنان التي أدت قبل قرن من الزمن إلى هلاك ثلث سكانه، نتيجة لحصار مزدوج فرض خلال الحرب العالمية الأولى وبفعل اجتياح الجراد الذي قضى على الأخضر واليابس. اللبنانيون الذين عايشوا ظروف تلك المأساة توفوا بين عامي 1915 و1918، وظهر أرشيف جديد تم الكشف عنه مؤخرا، يعيد تسليط الضوء على الظروف التي أودت بحياة ما بين 150 و200 ألف شخص من نساء ورجال وأطفال ماتوا جوعا على جوانب الطرق أو اضطروا إلى تأمين قوتهم من قشور الأشجار. منطقة جبل لبنان كانت الأكثر تضررا بفعل المجاعة، حيث كانت كيانا مستقلا، "متصرفية جبل لبنان"، في ظل الحكم العثماني، وكان تعداد سكانها يبلغ 450 ألف نسمة، وقد شكلت نواة الجمهورية اللبنانية التي أبصرت النور بصيغتها الحالية عام 1920. وكانت هذه المجاعة أحد الأسباب غير المباشرة لضم مناطق زراعية إليه، مثل سهل البقاع حتى تتمكن جمهورية لبنان الناشئة من الاستمرار والبقاء. ونقلا عن المؤرخ كريستيان توتل والأب بيار ويتوك في كتاب أصدراه مؤخرا بعنوان "الشعب اللبناني ومآسي الحرب العالمية الأولى" عن شاهدٍ قوله إن الناس وبفعل الجوع والأمراض "كانوا ينهارون على الأرض ويتقيئون دما". ويضيف "كانت جثث الأطفال تلقى بين أكوام النفايات". ويوضح المؤرخ يوسف معوض أن "الناشطة الإصلاحية التركية المعروفة خالدة أديب، قالت إنها لم تعد تجرؤ على النوم في بيروت، لأنها كانت تسمع طوال الليل أشخاصا يصرخون: جوعان جوعان (أنا جائع)". أما عن الأسباب فإن المؤرخ والأستاذ الجامعي عصام خليفة أشار إلى إن مجموعة عوامل تضافرت ضد لبنان منها "الموقع الجغرافي لجبل لبنان، حيث كانت أراضيه لا توفر الغذاء إلا لأربعة أشهر في السنة". كما يوضح أن الوضع ازداد سوءا بعد "الحصار البحري الذي فرضه الحلفاء" على البحر الأبيض المتوسط لقطع الإمدادات عن العثمانيين. لكن الحصار البري الذي فرضه الحاكم العثماني العسكري جمال باشا، شكل العامل الأبرز في خنق سكان منطقة جبل لبنان الذين كانوا بمعظمهم من المسيحيين الموارنة المحميين من فرنسا، مما أثار المخاوف من قيام الموارنة بدعم حملة الحلفاء، وكان ينبغي بالتالي تجويعهم قبل أن يتسلحوا. وفي عام 1915، الذي عرف ب"عام الجراد"، التهمت جحافل الجراد كل شيء، ويقول معوض إن العثمانيين صادروا خلال الحرب الحيوانات التي كانت تستخدم في النقل والمحاصيل، ولكنه يعتقد أنه تم طمس هذه الحقبة المؤلمة في أذهان الناس بسبب شعور بالخجل والذنب، ذلك إن الموت جوعا لا يعتبر عملا بطوليا على غرار الموت في المعارك الحربية. بعض العائلات اللبنانية أصبحت ثرية بفضل بيع منتجات كانت مخزنة لديها بأسعار باهظة، ويروي المؤرخون أن نساء بعن أجسادهن مقابل كسرة خبز، وتخلى رجال عن أراضيهم مقابل برتقالة. ولم يقتصر الأمر على الجوع إذ خلت قرى بأكملها من سكانها بعد وقوعهم فريسة أمراض التيفوئيد والكوليرا التي انتشرت بسرعة كبيرة. رسميا، دخلت هذه المأساة طي النسيان لأنها لم تكن تشكل عامل وحدة في الجمهورية الناشئة في ذلك الوقت، لأنها طالت المسيحيين أكثر من المسلمين. وتبقى الصور النادرة التي التقطها المدير العام للجمعيات الخيرية في جبل لبنان آنذاك إبراهيم نعوم كنعان، مخاطرا بحياته، بسبب الرقابة العثمانية المشددة، هي الشاهد المادي الوحيد المتبقي عن تلك الحقبة المؤلمة. حيث توثق صور كنعان لوقائع صادمة، بينها امرأة نحيلة برزت عظامها تتناول قطعة من الخبز وصورة أخرى لجثث هزيلة ملقاة على الأرض. المجاعة طبعت الأدب اللبناني مع رواية الرغيف (1939) لتوفيق يوسف عواد وقصيدة "مات أهلي" لجبران خليل جبران، أكثر الأدباء اللبنانيين شهرة، حيث قال في قصيدته هذه "مات أهلي جائعين (...) ماتوا صامتين لأن آذان البشرية قد أغلقت دون صراخهم".