دائمًا ما تجد السُلطة المُبدعين حجرًا كبيرًا يُعيق مسارهم في السيطرة، فبينما يتمتع السُلطان بالقوة والنفوذ، ودعم أوفياء العرش، ولكن هُناك دائمًا من يرفض الالتصاق بكل هذا أو حتى الاقتراب منه من أجل فكرة قد تكون وحدها كفيلة بهز عرش السُلطة؛ وكعادة القوة في أوج عجزها، لا تجد السُلطة وأصحابها سبيلًا لإيقاف المُبدع سوى سجنه أو قتله، وكأن هذا هو ما يوقف الفكرة، دون الاعتراف بأن الفكرة ذاتها كيان ضخم يتبعه مُريديه دون أن يتوقف لسجن صاحب الفكرة أو موته. "البوابة نيوز" تستعرض بعض من وقفت أفكارهم أمام السُلطة، فكان مصيرهم السجن والتشريد، بل والقتل سواء بالاغتيال أو بأحكام صنعتها قوانين الطغيان.
المُتنبي في سجن الإخشيدي.. كانت الفترة التي نشأ فيها الشاعر أبو الطيب المُتنبي، هي الفترة التي بدأت فيها الدولة العباسية في التفكك والانهيار، في الوقت الذي قويت فيه الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها، حيث انحسرت هيبة الخلافة، واستقرت السُلطة في أيدي الوزراء وقادة الجيش الذين كانت أغلبيتهم من الأكراد والجراكسة، كذلك ظهرت الحركات المُسلحة التي أخذت تشن الهجمات على الدولة الضعيفة، كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. ولكن هذا التنافس والصراع السياسي أثمر في الحياة الثقافية بشكل كبير؛ حيث كان لكل حاكم أو وزير في الكيانات السياسية الجديدة والمتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء لمدحه، واتخذهم الحُكّام أيضًاوسيلة لتقوية الصلة بينهم وبين المجتمع، وكان المُتنبي ذكيًا، لما يجري حوله، وكان في هذه الفترة يبحث عن شيء يُلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحًا وتصريحًا حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرًا: أبا عبد الإله معاذ أني إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن. وفي الكوفة، استطاع المُتنبي أن يصبغ شِعره بلونها حتى ذاعت شهرته، فأدرك بما يملُك من ذكاء أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من الكوفة ستُزيد من تجاربه ومعارفه، فارتحل إلى بغداد برفقة والده، وهو في الرابعة عشرة؛ وهُناك تعرف على الوسط الأدبي، وحضر بعض حلقات اللغة والأدب، ثم احترف الشعر ومدح رجال الكوفة وبغداد؛ غير أنه لم يمكث في عاصمة الخلافة إلا سنة غادر بعدها برفقة والده إلى الشام، فالتقى القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم ويمدحهم، وظلّ يتنقل بين دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص. ومن سوء حظ الشاعر الذي عرفته كُل بوادي العرب أن قيل عنه أنه تنبأ في بادية السماوة بين الكوفة والشام فتبعه كثيرون، ما أثار الإخشيدى الذي شعر بالغضب، فقرر أن يُدرك المُتنبي قبل أن يستفحل أمره، فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد الذي استطاع أسره وسجنه حتى قيل أنه تاب ورجع عن دعواه. ولكن المُتنبي لم يهزم من داخله في الأيام التي عاشها بداخل السجن، فقد أدلى من خلالها بشهادته، وصرّح وألّمح إلى أوضاع كان ينكرها، كذلك هاجم خصوم كادوا له ومكروا به، وحفروا له هوة لم يملك إلا أن يقع فيها. وكان أشهر ما كتبه المُتنبي عن فترة السجن قصيدة قالها في الإخشيد محمد بن طغج، الذي أمر بالقبض عليه، وكان وقتها يبغى من الإخشيدى أن يرحمه وهو في السجن بتهمة لم تخرج من النية إلى حيز الفعل، ومن الطبيعي أن يرفع أبو الطيب المُتنبي استرحامه إليه وإلى لؤلؤ أمير حمص الذي ألقاه في السجن. رمى حلبًا بنواصي الخيول وسمر يرقنّ دمًا في الصعيد وبيض مسافرة ما يقمن لا في الرقاب ولا في الغمود سعوا للمعالي وهم صبية وسمر يرقن دما في الصعيد لا في الرقاب ولا في الغمود إلى كل جيش كثير العديد أم من كآبائه والجدود وسادوا وجادوا وهم في المهود. كان السجن علامة واضحة في حياة المُتنبي، ورأى ما حدث حاجزًا كبيرًا اصطدمت به آماله وطموحاته وحالت دون ما يُريد؛ ففكّر بعد خروجه من السجن أن يبحث عن فارس قوي يكون عضدًا له ولتحقيق طموحاته، ولكنه عاد مرة أخرى يحيا حياة التشرد والقلق، فتنقل من حلب إلى أنطاكية إلى طبرية، وخرج المُتنبي من السجن بعد أن ظلّ قرابة عامين وحاول أن يبدو مُنتصرًا غير مهزوم فقال أذم إلى هذا الزمان أهيله فأعلمهم فدم وأحزمهم وغدُ وأكرمهم كلب وأبصرهم عمٍ وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوًا له ما من صداقته بدُّ. وعندما وجد نفسه هائمًا من جديد، قام المُتنبي بتقييم الموقف السياسي تقييمًا جديدًا، وكان يبغي الالتصاق بأحد الأمراء الأقوياء بحيث يكون الاقتراب هذه المرة أكثر إسعافًا على النجاح، وهذا ما فعله مع سيف الدولة الحمداني، وراعى أن يكون لديه اتصال بالأمراء من غير العرب كالإخشيديين –رغم أن سجنه كان على يد أحدهم- توثيقًا لعلاقة قد تثمر يومًا في بلاد الشام أو مصر. والمُتأمل في أشعار أبو الطيب المُتنبي سيرى بقوة أنه رغم كل ما حدث فإنه لم من السجن مهزومًا بداخله، وأنه كان مُدركًا لما دُبِّر ضده من أذى، ولم يكن السجن وما لقيَّ فيه من عذاب كاد يورده حتفه قادر أن يصرفه عن تحقيق هدفه وعن السعي لاقتناص الحظ الذي طلبه لنفسه؛ وهكذا كان مبدأوه الذي جعله يُنشد.. بمَ التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغني من نفسه الزمن.