أَنا لاعب النَرْدِ أَربح حينًا وأَخسر حينًا أَنا مثلكمْ أَو أَقلُّ قليلًا وُلدتُ إلى جانب البئرِ والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً وانتميتُ إلى عائلةْ مصادفَةً ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ.. كان دائمًا يصف نفسه بأنه لاعب نرد في معترك الحياة، خاض واقعه المرير منذ طفولته التي قضى أغلبها بعيدًا عن وطنه المسلوب، وحتى واراه التُراب في سن السابعة والستين، كتب أعظم القصائد في الحب، المقاومة، الحرب، وترك كلمات تتغنى بها جماهير غفيرة تتذكر كلماته، فيبقى حيًا في مكان ما كما أراد دائمًا. إنه محمود درويش.. الذي لو ظل حيًا لما صار أسطورة. البداية وأَنا الغريب بكُلِّ ما أُوتيتُ من لُغَتي.. ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف الضاد، تخضعني بحرف الياء عاطفتي، وللكلمات وَهيَ بعيدةٌ أَرضٌ تُجاوِرُ كوكبًا أَعلى.. وللكلمات وَهيَ قريبةٌ منفى.. ولا يكفي الكتابُ لكي أَقول وجدتُ نفسي حاضرًا مِلْءَ الغياب.. ولد محمود درويش في الثالث عشر من مارس عام 1941 في قرية البروة الفلسطينية، والتي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، ولم يكد يتم السادسة من عمره عام 1947، حتى استيقظ في إحدى الليالي حالكة السواد على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وهرج في المنزل، وهروب مفاجئ من البيت أعقبه العدوٍ مع أسرته لأكثر من ست وثلاثين ساعة، قضت الأسرة بعضها مُختبة في المزارع من عصابات الهاجاناة، الذين ما انفكوا يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم تحت دوي القنابل، ليجد محمود الصغير نفسه أخيرًا مع عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في جنوبلبنان، بعد أن تعرض ككل الفلسطينيين للاقتلاع من أرضه، وتدمير مدنه وقراه. " كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا، لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل.. وقد أقيمت على أراضيها موشاف أحيهود، وكيبوتس يسعور.. وكانت صفتنا في القانون الإسرائيلي "الحاضرون- الغائبون"، أي أننا حاضرون جسديًا ولكن بلا أوراق.. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين".