فيما تستدعي اللحظة العربية الراهنة التلاحم بين كل المثقفين العرب في مواجهة مخططات الشر التي تستهدف المنطقة كلها فإن ثمة حاجة على وجه الخصوص لتشجيع التواصل البناء بين المثقفين المصريين والليبيين لدرء مخاطر جماعات التكفير وتنظيمات الإرهاب التي يهمها إشعال الفتن بين مصر وليبيا، خاصة بعد أن شرعت هذه الجماعات في استهداف المصريين بليبيا ممن يدينون بالمسيحية وبدأت في تنفيذ "عمليات قتل على الهوية". وأعلنت الحكومة الليبية المعبرة عن الشرعية "حالة التعبئة الشاملة" لمواجهة الميلشيات المتطرفة وجماعات الإرهاب، وأكدت على أن الجرائم البشعة التي ترتكبها هذه الجماعات لن تمر دون عقاب. وكان السفير بدر عبد العاطي المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية قد أكد على أن الوزارة تجري اتصالات مكثفة مع الأجهزة الليبية المعنية "لاستجلاء حقيقة اختطاف 13 مواطنا مصريا مسيحيا بليبيا"، موضحا أن الموقف في مدينة سرت المختطف بها 20 مصريا خارج سيطرة الحكومة الليبية. ويبدو أن هناك حاجة ماسة لضبط عملية السفر لليبيا في المرحلة الراهنة، فضلا عن ضرورة اتخاذ إجراءات فاعلة لحماية المصريين الذين تقطعت بهم السبل في الأراضي الليبية خاصة بعد أن شعر الرأي العام المصري بصدمة حيال الجريمة البشعة التي قتل فيها طبيب مصري وزوجته وابنته مؤخرا في محيط مدينة سرت وهي جريمة "قتل على الهوية". وكان الدكتور نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية قد أعلن أمام أكثر من 200 مفكر ومثقف عربي وممثلين للأزهر الشريف والكنائس وهيئات ثقافية وفكرية ودينية ومنظمات حقوقية أن الجامعة تعكف حاليا على دراسة شاملة لتحديات الإرهاب والتطرف في المنطقة، وتأثيرها على الأمن القومي العربي لاستخلاص نتائج ووضع توصيات تمهيدا لرفعها إلى القمة العربية التي ستعقد في شهر مارس القادم بالقاهرة. وفي افتتاح المؤتمر الإقليمي المنعقد بمكتبة الإسكندرية تحت عنوان "نحو إستراتيجية عربية شاملة لمواجهة الإرهاب والتطرف" أوضح نبيل العربي، في كلمته أمس الأول السبت، أن قضية الإرهاب والتطرف من أكثر القضايا المؤثرة على الاستقرار والتقدم والازدهار في المنطقة العربية في الوقت الراهن. ولا حاجة للتأكيد على المصلحة المشتركة للمصريين والليبيين في أن تكون العلاقات الليبية-المصرية قوية ووطيدة وأخوية دوما وألا يسمح أي طرف بتهديد أمن الطرف الآخر من جانب مليشيات خارجة على سلطة الدولة وتسعى لإثارة الفوضى وعرقلة العملية الديمقراطية. وتشكل الثقافة قاعدة راسخة لدعم هذه العلاقات في وقت باتت فيه الميلشيات الظلامية تهدد حاضر ليبيا ومستقبلها وهي تشكل أداة قوة الشر الأخطر في عملية الدفع نحو تقسيم الوطن الليبي إلى ثلاثة كيانات هي طرابلس وبرقة وفزان والواقع إنها ترمي لتحويل ليبيا الشقيقة إلى " أفغانستان في زمن حكم طالبان وسطوة أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة". وهذا النموذج المرغوب فيه من جانب التكفيريين الذين بايعوا زعيم تنظيم داعش كأمير لهم لا يكتفي أبدا بتمزيق وحرق الأرض التي ابتليت به وأنما يعمل دوما على نشر الإرهاب في المحيط الإقليمي وتغذية عوامل عدم الاستقرار في الدول المجاورة بغرض فرض هذا النموذج الظلامي عليها. واذا كان حلف شمال الأطلنطي "الناتو" قد قاد عملية إسقاط النظام السابق في ليبيا فإن السؤال الكبير والمبرر حقا:"لماذا انسحب الناتو عسكريا من الساحة الليبية قبل بناء مؤسسات الشرعية الجديدة وآداتها التنفيذية الأولى أي القوات المسلحة"؟!. وقد يكون هذا السؤال المعلق كافيا للرد على بعض من يكتبون بلا تدبر ويتحدثون عن قلق دول على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط حيال الأوضاع في ليبيا مع أن هذه الدول صاحبة أدوار رئيسية في الناتو وتعلم بالضرورة مآلات قرار إسقاط النظام السابق في ليبيا مع ترك الساحة خاوية بلا مؤسسات للشرعية الجديدة !. والشواهد تتوالى حول رغبة البعض في تحويل ليبيا إلى مجموعة كانتونات متقاتلة على أسس عرقية وقبائلية بعد أن أمست المنطقة ككل محور الأحاديث إن لم يكن المؤامرات حول الخرائط الجديدة للأرض العربية. ويذهب البعض إلى أن الحديث عن تلك المنطقة يتجاوز وجود الدول "التي ولد بعضها "ولادة قيصرية" في اتفاقيات سايكس بيكو الأولى للبحث في صيغ جديدة لكياناته التي قد لا يكون استمرارها على ماهي عليه مناسبا لصاحب أو أصحاب الحل والربط وخططهم لمستقبل المنطقة بحسب ثرواتها وليس بحسب مكوناتها القديمة. وإذا كانت الاسئلة تتواتر حول إمكانية إقامة تركيبة جديدة للمشرق العربي يطلق عليها البعض خرائط ساسكس-بيكو 2 ودور تنظيم دموي متطرف مثل داعش في هذا المخطط فيبدو أن مخطط الشر لاينحصر في المشرق العربي وإنما يمتد ليشمل ليبيا الشقيقة تمهيدا لرسم خارطة جديدة لمنطقة المغرب العربي. وواضح أن مصالح الخارج تأخذ إلى اعتماد "تصغير الكيانات القائمة" فيما لم تعد الأحاديث أو حتى التقارير الرسمية عن محاولة تقسيم سوريا إلى كيانات على قاعدة طائفية أو مذهبية سرا وهكذا فالباب مفتوح أمام مشاريع انفصالية على قواعد متعددة من بينها بالتأكيد القاعدة الطائفية إلى جانب التقسيمات على أسس عرقية وقبائلية وجهوية كما يبدو في الحالة الليبية. ولئن كان المسيحيون في مصر لايجوز بأي حال من الأحوال وصفهم بالأقلية فإن مخطط الشر الذي تتوالى شواهده المشئومة في المنطقة العربية تولي للأقليات دورا واضحا في عملية تفتيت الدول وتقسيم الأوطان، بينما تمضي جماعات الظلام العميلة في استهداف تلك الأقليات كجزء من هذا المخطط كما هو واضح في حالة تنظيم داعش الدموي بالمشرق العربي. والآن تتوالى الكتب في الغرب حول الأقليات في المنطقة العربية ومن بينها مثلا كتاب جديد صدر بعنوان"ورثاء ممالك منسية" لجيرارد راسل الذي يتناول فيه مايصفه "بمحنة الأقليات في الشرق الأوسط" ويتحدث فيه بنظرة لاتخلو من "استشراقية عجائبية" عن مشهد الأقليات في المنطقة بما في ذلك الصابئة أو الطائفة المندائية في العراق. ومؤلف الكتاب جيرارد راسل كان دبلوماسيا بريطانيا في بغداد وشهد هناك مرحلة مابعد الإطاحة بنظام صدام حسين الذي كان يحمي الصابئة فإذا بهم يتعرضون لصنوف من الاضطهاد بعد سقوطه بفعل الغزو الأمريكي للعراق عام 2002 حتى باتت الطائفة كلها راغبة في الهجرة للغرب!. بالطبع هذا مجرد مثال في كتاب حافل بالحديث عن الأقليات في العالم العربي وتأثير ركوب قوى التطرف والظلام لموجة الربيع العربي بما يؤدي لتغيير الخرائط وشطب فئات سكانية تحقق التنوع وهو مصدر ثراء حضاري وثقافي لمن يعقلون !. والحقيقة أن جيرارد راسل كان منصفا في كتابه إلى حد كبير حيث أكد على أن الإسلام كدين متسامح مع أتباع الأديان الأخرى ولايضيق على الأقليات أو يدعو لاضطهادها لكن المشكلة تبقى في تلك الجماعات الظلامية التي لاتتورع عن "خطف الإسلام ذاته لتحقيق مآربها الشريرة". من السهولة بمكان استنتاج الطرف المستفيد في المنطقة من هذا النمط من عمليات التفريغ السكاني والتهجير والترحيل القسري ناهيك عن الخطف والقتل على الهوية، فضلا عن تدمير أو تخريب التراث الثقافي العربي الذي شارك فيه الجميع بما فيهم اجداد هؤلاء الذين يجري استهدافهم الآن من جانب الجماعات الظلامية. الكتاب ممتع كسرد إلى حد كبير وأن كان مؤلفه الدبلوماسي البريطاني جيرارد راسل وقع في الخطأ الغربي المتكرر وهو اعتبار المسيحيين من الأقباط "أقلية" في مصر مثلهم مثل الصابئة والايزيديين في العراق أو الدروز في سوريا ولبنان. وعندما نتحدث عن المصريين ممن يدينون بالمسيحية والذين يستعدون للاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح بعد غد الأربعاء فالحديث يكون عن مكون مصري أصيل بكل ماتعنيه الكلمة حتى أنه لايجوز الحديث عما يسمى "بعنصري الأمة المصرية لأن المصريين في الحقيقة والتاريخ والواقع عنصر واحد". فالمسيحيون في مصر جزء لايتجزأ من نسيجها العضوي وقد يكون ماقاله المفكر الراحل العظيم جمال حمدان في عمله الثقافي الخالد "شخصية مصر" حول دور مصر في نشر المسيحية أفضل تعبير عن هذه المسألة من هنا لم يكن "بابا العرب الراحل شنودة" مبالغا بأي حال عندما قال إن "مصر وطن يعيش فينا" وكذلك البابا الحالي تواضروس عندما قال "إن وطنا بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن"، مؤكدا على أنه "لو احترقت الكنائس سنصلي في المساجد". وهكذا فإن قرار قوى الشر التي تدير المشهد الدموي في ليبيا الشقيقة باستهداف المصريين المسيحيين على وجه الخصوص هو "خنجر مسموم يستهدف مصر وكل مصري مسلما كان أم مسيحيا" ثم أنه قد يرمي في الواقع لاستدراج مصر نحو مستنقع حافل بالشراك المتفجرة. والواقع أن هناك حاجة ملحة لتعزيز التواصل مع المثقفين في ليبيا الذين يتعرضون بالطبع لتحرشات ومضايقات بل وأحيانا ممارسات تنكيل من جانب الجماعات الظلامية. وإذا كان القاص الليبي عمر الككلي قد سجل طرفا من وقائع محنة الاعتقال في زمن الطغيان وممارسات النظام الذي أطاح به الشعب الليبي في ثورة 17 فبراير ففي سياق الحالة الراهنة يواجه المثقفون في ليبيا تهديدات المتطرفين لأنشطتهم الإبداعية من جانب الميليشيات والجماعات المتطرفة وهي تهديدات لابد وأن يرفضها كل مثقف صاحب ضمير حر سواء في مصر أو في العالم ككل. والدولة الليبية ليست مصدر هذه التهديدات بل ذلك الطفح المتطرف بممارساته الإرهابية وهي ممارسات من شأنها دوما تهديد حرية التعبير والعلاقات الفكرية-الحوارية بين أبناء المجتمع الواحد وحق المبدع في التعبير مع الحق في مناقشته بالعقل لابالأظفار وبالكلمة لابالسيف وتنظيمات العنف الإكراهي. فعناصر تلك التنظيمات على امتداد المنطقة كلها تتحول إلى نوع من الميليشيا العقائدية التي تطبق الأحكام على من تحسبهم مخالفين أو من "أهل البدع". وإذ تمنح تلك التنظيمات لنفسها بذلك صفة "الحسيب أوالديان وحق الحساب والعقاب" في تصادم واضح وفادح مع جوهر الإسلام فيما تحول "التفكير إلى تكفير" والرأي العقلي النسبي إلى جرم واثم وتمارس عملية سطو وقرصنة على الدين بغية احتكاره وتحويله إلى ملكية خاصة لها دون سواها من المسلمين ناهيك عن البشر في كل مكان. ومن نافلة القول إن ظاهرة استفحال الميليشيات المسلحة والخارجة على سلطة الدولة كما هو الحال في ليبيا الشقيقة إنما تؤسس موضوعيا لانتشار ظاهرة التكفير ومعاقبة المبدعين بذرائع ملفقة تتستر وراء الدين العظيم فيما تنصب من نفسها رقيبا على الأنشطة الفكرية والأدبية والفنية في المجتمع. هكذا تحارب تلك التنظيمات المسلحة بممارساتها العنفية الإبداع باسم محاربة البدع معممة باسم الدين أو الدفاع عنه الجهل والانغلاق وكراهية الثقافة وهكذا ترتكب جريمة كبرى ضمن سلسلة جرائمها وهي السعي لعزل الإنسان العربي عن سياق العصر بل عن الحياة والفكر والعقل. كما أكد القاص الليبي عمر الككلي على أهمية "إرادة مقاومة البشاعة" في ظل النظام السابق فإن هناك حاجة لاستدعاء تلك الإرادة اليوم في مواجهة بشاعة الميليشيات التكفيرية حتى لايضطر الأدباء والمبدعون في هذا البلد العزيز مرة أخرى لابتكار حيل للتواصل بينهم، مثلما كانوا يفعلون في معتقلات وسجون النظام البائد. وسواء في ظل الأنظمة الشمولية كما في نظام الطغيان الذي أسقطته ثورة 17 فبراير في ليبيا أو تجبر جماعات التكفير وميليشيات العنف تكون البداية محاربة الكلمة الحرة أو على حد قول عمر الككلي:"في البدء كان منع الكلمة"، مشيرا لحرص إدارة المعتقل الذي استقبلوه فيه مع زملائه بجرعة من الرعب على مصادرة أي كتاب بل وأية كلمة مكتوبة. إنها إستراتيجية تدمير العقل والوجدان وتركيع المبدعين، فيما يعيد عمر الككلي للأذهان ماقاله النائب العام الإيطالي في ظل النظام الفاشي أثناء محاكمة المفكر انطونيو غرامشي "يتوجب علينا أن نوقف هذا الدماغ عن العمل 20 سنة"!. وإذا كانت الجماعات التكفيرية هي لون من ألوان الفاشية فإنها تضعف المجتمعات التي ابتليت بها بقدر ماتخلق بيئة أمنية هشة وحاضنة لعمليات تهريب السلاح عبر الحدود ومحاولات زعزعة الأمن في دول مجاورة ضمن "عمليات قذرة" تشرف عليها وتمولها أطراف يهمها استمرار نزيف الدم في المنطقة العربية. وكان الصحفي الأمريكي سيمور هيرش الذي يوصف بأنه واحد من أفضل الصحفيين الاستقصائيين في العالم قد كشف عن تفاصيل مثيرة وخطيرة فيما يتعلق بعمليات تهريب أسلحة من ليبيا لدول أخرى في المنطقة ضمن مخطط متعدد الأطراف ويشمل جماعات تكفيرية بغرض استمرار نزيف الدم وتشجيع الفوضى المدمرة. وفيما تتكرر على نحو أو آخر نبرة العتاب على السنة مبدعين عرب للثقافة المصرية كثقافة مكتفية بذاتها لحد الانعزال عن الواقع الثقافى العربى أو عدم الاهتمام الكافى بتطورات هذا الواقع يتعين على المثقفين المصريين بذل جهد معرفي وتواصل بناء مع كل الثقافات والمثقفين في العالم العربي وخاصة مع المثقفين في ليبيا الشقيقة التي تهددها الآن نار الإرهاب. إنها الحرية التي تدخل في صميم النضال المشترك بين المثقفين المصريين والليبيين بل وكل المثقفين العرب ضد مخططات الشر والطغيان بكل صوره وأشكاله ومن بينها ذلك الطغيان الظلامي لجماعات التكفير وميليشيات الدم وتمزيق الأوطان وجاهلية عصر الغاب..فما هو الإبداع إذا لم يسقط الطغاة والطغيان ومفردات الظلام.