بدأت قصة دخول امير الصحافة محمد التابعي السجن للمرة الثانية وهو يلعب الطاولة ! كان ذات يوم في شهر ابريل 1933 يجلس في النادي السعدي.. وهو يلعب عشرة طاولة مع صديقه حفني باشا الطرزي. وأقبل عليهما محمود فهمي النقراشي باشا ووضع يده على كتف التابعي. وقال لحفني الطرزي: عن اذن الباشا.. عايز محمد في كلمتين ! ونهض محمد التابعي وذهب مع النقراشي باشا إلى غرفة مكتبه في النادي.. وهناك سأله النقراشي باشا: عدد روز اليوسف خلص ؟ رد التابعي: لا.. لسه.. ليه ؟ قال له النقراشي باشا: فيه حكاية طلب مني مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد أن ارويها لك لكي تكتب عنها. في ذلك الوقت كان الوفد في المعارضة خارج الحكم، وكان إسماعيل صدقي باشا هو رئيس الوزراء. وروى النقراشي باشا لمحمد التابعي تفاصيل قصة تحولت فيما بعد إلى قضية باسم "قضية الحصانية" وهي القضية التي اتهم فيها مأمور مركز السنبلاوين بتزوير محضر رسمي.. حرره ضد أفراد اسرة صقر الوفدية في ناحية الحصانية واسرع امير الصحافة بكتابة مقال عن الموضوع وآثار المقال ضجة كبيرة..وتم استدعاء التابعي للتحقيق معه امام الافوكاتو العمومي.. وهو رئيس النيابة العمومية.. لكن النائب العام محمد لبيب عطيه باشا لم يعجبه هذا التحقيق.. فاستدعى التابعي مرة أخرى.. واعاد التحقيق بنفسه معه. وكان النائب العام محمد لبيب عطية باشا على صلة وثيقة برجال السراي وكان يطمع في أن يتولى منصبا وزاريا.. وكان في نفس الوقت يحب "الابهة" والمظاهر ! ذات مرة ذهب للتفتيش على نيابة امبابة.. فاستقل عربة ضخمة وذهب بها إلى هناك.. وحوله كوكبة من فرسان الشركة ! وكان يعتقد أن ذلك.. من باب "المحافظة على الهيبة المفروضة للنائب العام" ! وكان النائب العام عطيه باشا متشددا للغاية في التحقيق مع امير الصحافة.. وكان مقتنعا بأن التابعي في مقاله قد ارتكب جريمة القذف في حق وزير الحقانية أحمد على باشا وحق مأمور مركز السنبلاوين.. وحق النائب العام نفسه ! وخلال تحقيقه مع التابعي كان يؤكد له أنه – النائب العام – سوف ينقل اقناعه هذا.. إلى مستشاري المحكمة التي سوف تحاكم التابعي ! وانتهى التحقيق بتوجيه تهمة القذف والسب للتابعي في حق وزير الحقانية "العدل" والى النائب العام والى مأمور مركز السنبلاوين. وتم احالة امير الصحافة إلى محكمة الجنايات ! وتم تحديد جلسة المحاكمة امام محكمة الجنايات دائرة المستشار محمد بك رئيس المحكمة قد دخل ذات يوم غرفة النيابة أثناء قيام زكي سعد رئيس النيابة بالتحقيق مع التابعي. وقال له: احبسه يا زكي بيه ! وتأكد الجميع بعد أن احيلت القضية إلى دائرته أنه سوف يحكم على التابعي بالحبس سنة أو سنتين مع الشغل ! وكان حزب الوفد قد ارسل المحاميين محمد صبري أبو علم ومحمد صلاح الدين للدفاع عن التابعي ومجلة روز اليوسف. وطلب الدفاع تأجيل نظر القضية إلى دور مقبل "للاستعداد".. لهدف الهروب من نظر القضية امام دائرة نور بك الذي يكره الوفديين.. لكن رئيس المحكمة نور بك رفض تأجيل القضية إلى دور مقبل.. وقام بتأجيلها أسبوعا واحدا فقط. وقال للمحاميين: هذا هو آخر تأجيل.. والمحكمة لن توافق على تأجيل نظر القضية مرة أخرى ! وهكذا كان هناك أسبوع مهلة امام محمد التابعي ليعرف مصيره.. فماذا فعل ؟ تصادف أن كان يوم عيد ميلاد محمد التابعي خلال ذلك الأسبوع.. وكان امير الصحافة قد تعود على إقامة حفلة عيد ميلاده كل سنة في بيته.. وكان دائما يدعو صديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب لإحيائها.. وكان يحضرها كبار الشخصيات والمشاهير من اصدقاء التابعي.. واقام التابعي حفلة عيد ميلاده كالعادة.. وحضرها مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد ومكرم عبيد باشا وأحمد ماهر باشا والنقراشي باشا.. وعدد كبير من اصدقاء التابعي الوفديين.. وفي اليوم التالي.. ظهرت صحف ومجلات الوفد وهي تصف حفلة عيد ميلاد التابعي.. وما كان فيها من موسيقى وغناء.. وكيف أن "الرئيس الجليل" مصطفى النحاس هنأ التابعي بعيد ميلاده.. وكيف أن المدعوين هتفوا بحياة الوفد ورئيسه.. وبسقوط فلان وعلان ! وجاء يوم نظر قضية التابعي.. وهمس له محاميه صبري أبو علم وهما يدخلانه الجلسة: ربنا يستر بعد اللي انكتب عن حفلة عيد ميلادك ! وبدأت الجلسة.. ووقف محمود منصور رئيس نيابة مصر ليلقي كلمة الادعاء.. وكان يشعر بحرج شديد.. لأنه في الحقيقة كان صديقا للتابعي !وبدأ كلمته بالاشادة بأمير الصحافة وأسلوبه في الكتابة.. الذي له وقع السحر في نفس القراء. وهنا وقف محمد صبري أبو علم المحامي التابعي ليقول: إن رئيس النيابة قد اغرق المتهم في بحر من المديح والاطراء.. ولقديما كان الرومان يخنقون ضحاياهم بروائح العطر والزهور ! ولو كان الأمر في يد رئيس المحكمة نور بك وحده.. لقضى بأشد عقوبة على التابعي.. لكن كان معه على منصة القضاء مستشاران آخران. وفي نهاية الجلسة أعلنت المحكمة انها ستنطق بالحكم بعد يومين.. أي في جلسة السبت القادم. وغادر التابعي قاعة المحكمة وهو واثق من أن الحكم سيصدر بحبسه.. وفكر امير الصحافة في أن يستغل اليومين الباقيين. قبل النطق بالحكم والذهاب إلى الحبس المتوقع.. أن يودع الصيف في الإسكندرية خلال هذين اليومين الباقيين.. وكان قبل ذلك كله بأيام قد ذهب مع صديقه محسن العيسوي إلى صالة رقص على ضفة النيل الغربية.. وكان العيسوي قد اخبره أن فرقة رقص من فتيات النمسا حضرت منذ ايام للعمل في هذه الصالة.. وانهن يغنين اغنيات الفجر.. وجلس التابعي مع صديقه.. كان الجو يسبح في وقت الصيف المبكر.. وكان صدر التابعي يجيش بألوان من المشاعر والعواطف المبهمة الغامضة.. ومرت امامهما شقراء اجنبية.. كانت ترتدي ثوبا بسيطا أبيض اللون من قماش رخيص.. وحول خصرها حزام عريض من الجلد الأسود.. وكانت في ثوبها ونظراتها الصريحة وقوامها النحيل اشبه بتلميذة قادمة من المدرسة: واختارت الحسناء ذات السبعة عشر ربيعا مائدة في ركن بعيد.. وجلست وحدها تلعب بباقة من الياسمين.. تشمها حينا وحينا تقضمها بأسنانها وفي نفس السهرة.. عرف التابعي أن اسم هذه الحسناء "هيرما". وعرف أنه غير مسموح لها بالظهور على المسرح.. وغير مسموح لها بالجلوس مع الزبائن.. وانها حضرت مع شقيقتها الكبرى التي كانت صديقة مدير الفرقة. وإضافة إلى ذلك فان بوليس الآداب لم يأذن "لهيرما" بعد بالرقص ولا بالجلوس مع الزبائن بسبب صغر سنها. وتعرف التابعي إلى هيرما وشقيقتها التي وثقت فيه.. وسمحت له بالخروج مع هيرما للنزهة هنا وهناك. وكانت المحكمة قد بدأت في نظر قضية التابعي.. وخرج التابعي ذات مساء للتمشية مع هيرما على ضفة النيل الغربية.. ولم يكن الطريق معبدا أو مرصوفا بالأسفلت.. وعلى صخرة تحت شجرة جلست هيرما: وفرش التابعي على الارض جريدة كانت في يده.. وجلس عليها. ولدقائق ظل الاثنان صامتين لا يتكلما.. كانت هيرما تنظر إلى ضفة النهر الواسع.. واعتدل التابعي فجأة عندما سمعها تغني بصوت هامس.. وعندما انتهت هيرما من غنائها قالت للتابعي بالانجليزية: هل اترجم لك الاغنية ؟ لكن التابعي قال لها: حدثيني عن نفسك.. قالت لها هيرما: انا لا اذكر امي.. لأنها توفيت وانا طفلة.. وقامت شقيقتي "اليزابيث" بتربيتي.. وتزوج ابي من امرأة شريرة.. احالت بيتنا الصغير في مدينة "انسبروك" جحيما لا يطاق.. وذات يوم قابلت شقيقتي شابا يحترف الرقص في فرقة متجولة اغراها بالهروب معه، وذات يوم ايقظتني اليزابيث من نومي.. وكنت في العاشرة من عمري.. وتسللنا من البيت ومعنا حقيبة صغيرة.. وها هي قد مضت ستة اعوام منذ غادرنا النمسا، وانا كما ترى لا ارقص ولا اغني.. واعيش عالة على شقيقتي وصديقها ! كان الوقت قد مضى بها دون أن يشعرا واصبحا في الساعة الثانية صباحا.. فنهض الاثنان للحاق بشقيقة هيرما قبل أن تغادر الصالة.. وامام باب الصالة.. قال لها التابعي: هل تسمحين لي أن اشتري لك غدا ثوبا بدلا من الذي تمزق ؟ وفي مساء نفس اليوم.. سمع التابعي أن مدة عقد الفرقة مع صالة الرقص قد انتهت.. فسأل هيرما عن ذلك. قالت: نعم وسوف نغادر القاهرة إلى الإسكندرية يوم الخميس.. فهل يمكنك الحضور لرؤيتي هناك ؟ قال لها التابعي: اتمنى ذلك.. لكني متهم في قضية امام محكمة الجنايات وموعد النطق بالحكم يوم السبت.. قطبت هيرما حاجبيها في دهشة.. وقال لها التابعي: متهم في قضية صحفية سياسية.. قالت هيرما وهي تبتسم: طبعا فأنت صحفي.. كم انا غبية ! كان التابعي موقنا بأن الحكم سيصدر بالإدانة والحبس.. فسافر إلى الإسكندرية.. وقال لنفسه: إذا كنت سأدخل السجن.. فلا بأس من أن امضي هذه الليلة الأخيرة في الإسكندرية مع الحب.. وغدا إلى السجن ! وفي الإسكندرية ذهب للقاء هيرما.. سألته وهي تصافحه: براءة ؟ قال لها: لا براءة ولا إدانة.. الحكم غدا ؟ فتركته مع شقيقتها اليزابيث وذهبت لترتدي ثيابها.. وعندما حضرت قالت لها اليزابيث: هيرما.. ما دام السيد التابعي متأكدا من أن الحكم سيصدر غدا بإدانته.. فأنت تستطيعين أن تقضي السهرة معه.. وليس ضروريا أن تمري على في الصالة.. لكن ما تتأخري كثيرا ! وبدأ التابعي وهيرما ليلتهما في الإسكندرية. ولم يتركا مرقصا ولا مطعما ولا مقهى.. إلا دخلاه.. وتناولا فيه شيئا.. وكان غالبا كأس شراب ! وثملت هيرما من النبيذ.. فقالت للتابعي: كنت اريد أن اقول لك لكنها سكتت.. اكمل لها التابعي قائلا: انك عذراء.. اليس كذلك ؟ قالت: نعم.. فهل انت آسف أو نادم ؟ قال لها: لا انا آسف ولا نادم.. بل صدقيني أن نظرتي اليك كانت بريئة في هذا الذي تفكرين فيه. قالت له: قد تكون الليلة آخر مرة القاك.. فأنت قد تفارقني غدا.. ولا اعرف هل ستعود إلى الإسكندرية ام لا ؟ ونحن قد نسافر إلى اثينا بعد اسبوعين.. وبودي ولم تجد ما تقوله مناسبا..وانتهت السهرة في الثالثة صباحا.. وقام التابعي بتوصيلها.. ولم ينس وهو يودعها أن يطبع قبلة على يدها.. في العاشرة صباحا.. وفد خادم الفندق باب غرفة التابعي وقال له: مصر تطلبك على التليفون وكان أحد اصدقاء التابعي في القاهرة هو المتحدث. واخبره أن الحكم قد صدر عليه بالحبس البسيط اربعة اشهر.. وقام التابعي مسرعا إلى حقيبته.. فلا بد من أن يغادر الإسكندرية فورا ويعود إلى القاهرة لكي يقدم نفسه إلى البوليس.. قبل أن يبحث البوليس عنه.. وقد يقبضون عليه في الفندق.. كله إلا هذا.. وفي طريقه إلى محطة القطار.. مر التابعي على البنسيون الذي كانت تقيم فيه هيرما.. وكانت لا تزال نائمة.. وادخلته شقيقتها إلى غرفة نومها وايقظتها ثم انسحبت تاركة الإثنين بمفردهما.. وقال لها: انا عائد الآن إلى القاهرة بقطار الساعة الثالثة.. وان الحكم صدر على بالحبس ! وثبت هيرما بقميص نومها الرقيق من الفراش كانت في حالة ثورة.. ثورة طفلة لا تدري ماذا تقول ولا ماذا تفعل ووقف التابعي وهو يحول الابتسام وتهدئة ثورتها. ومرت دقائق قبل أن تصغي اليه.. قال لها: سوف القاك في يوم ما.. فهل تعدينني بأني سوف اجدك يومها كما اتركك الآن ؟ ومد يده يصافح وعلى فمه ابتسامة باكية ! قالت له: قبلني ! وقبلها لأول مرة.. وآخر مرة ! وذهبت معه إلى محطة القطار وهناك.. ومدت له يدها بورقة.. وقالت له: لقد نسيت.. هذا هو عنواني في اثينا.. وفي انسبروك.. فمن يدري.. ربما عدت إلى بلدي.. فهذه الحياة لا تعجبني.. وابي هو ابي على كل حال. وتحرك القطار وفيما بعد وعندما دخل التابعي السجن.. وصلت من هيرما بطاقة من الإسكندرية.. وبطاقة ثانية من اثينا.. وثالثة من بيروت !