ما زالت مصر تعيش سياسيا أجواء الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فى صورة يعاد إنتاجها من جديد عدة مرات، فقد أظهر الاستفتاء على التعديلات الدستورية أن فى مصر فريقين أساسيين يشكلان المشهد السياسى المصرى، وهما الفريق الإسلامى والفريق العلمانى. وأصبح المشهد السياسى يعيد إنتاج الانقسام الحادث بين الفريقين بصورة متكررة، مما يؤكد أن المجال السياسى المصرى موزع أساسا بين تيارين، وأن المسافة السياسية الفاصلة بينهما كبيرة، وأن خياراتهما السياسية مختلفة اختلافا كبيرا. ورغم أن المتابع لخطاب كلا التيارين يلاحظ بوضوح وجود العديد من مساحات الاتفاق، خاصة فى مجال الحرية والعدل والديمقراطية، إلا أن الفارق بين التيارين يظل أهم من القواسم المشتركة بينهما، حيث يغلب الاختلاف بينهما على المتفق عليه منهما فى معظم الأحداث والمواقف السياسية. حتى بات مشهد الفريقين هو المتكرر، ولم تخرج الانتخابات البرلمانية عن هذا المشهد الثنائى، حتى وإن عبّر عن كل فريق أكثرُ من حزب وتحالف، فقد ظل الاستقطاب الانتخابى الرئيس بين فريق (نعم) وفريق (لا)، حتى بات كلاهما يمثل المعادلة السياسية الأساسية فى الصراع السياسى المصرى. ولم تغب تلك الثنائية عن الشارع المصرى، بل لم تغب عن ميدان التحرير، حيث ظهر كل فريق بصورة مميزة وبمواقف تميزه عن الآخر فى معظم المناسبات السياسية والمظاهرات السياسية، حتى وصلنا إلى مرحلة تأكد فيها أن النزاع بين فريق نعم وفريق لا سوف يظل سائدا فى المشهد السياسى للسنوات القادمة. والمشكلة التى أظهرها الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ثم العديد من المواقف الأخرى ومنها نتائج الانتخابات البرلمانية، أن فريق نعم يمثل أغلبية فى حين أن فريق لا يمثل أقلية. ومنذ لحظة الإعلان عن نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والشارع المصرى يعيش لحظات نزاع عميق بسبب تلك النتائج، فقد تأكد لفريق نعم أنه يمثل أغلبية مجتمعية وسياسية، وتأكد لفريق لا أنه يمثل أقلية مجتمعية وسياسية، لذا أصبح فريق لا يعمل على تحويل مسار العملية السياسية بأية صورة من الصور، حتى لا يظل إسهامه السياسى مرتبطا بوزنه النسبى. لذا عمل فريق لا على تغيير مسار عملية الانتقال السلمى للسلطة، حتى يستطيع القيام بدور أكبر من وزنه فى العملية السياسية وما سينتج عنها من نظام سياسى جديد. ولأن فريق لا لديه تصور سياسى لا تؤيده أغلبية فى المجتمع، لذا أصبح يحول شعاراته إلى قضايا متفق عليها، ويزايد عليها، حتى يحصل على تأييد شعبى، يمكّنه من فرض رؤيته السياسية، والتى لا يعلن عنها أمام الناس. ولهذا أصبح فريق لا وهو فريق يحمل الرؤية العلمانية، لا يقدم نفسه بهذه الصفة، بل يحاول تقديم نفسه باعتباره الفريق الثورى الذى يحافظ على الثورة ومسارها، رغم أنه فى النهاية يحاول فرض رؤيته العلمانية والتى ترفضها الأغلبية المجتمعية والسياسية. ورغم أن فرض رؤية على الناس يمثل إهدارا لكل مكتسبات ثورة يناير، بل يعد خروجا بالكامل عليها، إلا أن فريق لا استطاع طرح نفسه إعلاميا بوصفه الممثل الوحيد والحصرى للثورة المصرية، حتى يستطيع القيام بدور سياسى أكبر من وزنه النسبى. وليست المشكلة فى وجود أكثر من تيار سياسى، لأن هذا التعدد إيجابى ويثرى الحياة السياسية، ويعبر عن الواقع الطبيعى، والذى تتعدد فيه الرؤى السياسية والاجتماعية، لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى أن التيار العلمانى لم يقبل فكرة أن يكون تيارا يمثل الأقلية السياسية فى المرحلة الانتقالية، ورفض فكرة أن يحتكم لصندوق الانتخاب فقط، وأراد الاحتكام لما يراه من وضع نخبوى يميزه. ولكن العملية السياسية لا تدار إلا عن طريق الاحتكام للشعب، خاصة بعدما نال الشعب حريته بنفسه، ولم يمنحها أحد له. ولهذا أصبحنا أمام لحظة تاريخية فاصلة، تتميز بالنزاع الحاد فى المجال السياسى، والذى انتقل إلى المجال الاجتماعى، وساهمت وسائل الإعلام فى تعميق حالة الاستقطاب الناتجة عن هذا النزاع، حتى بات الشارع المصرى يشهد حالة من الاحتقان. وفى الواقع السياسى يمثل هذا المشهد حالة تنافسية، حتى وإن كانت عميقة الأثر، أو حادة الطابع. ولكن ما يؤثر سلبا على المشهد السياسى، هو وصول حالة النزاع السياسى إلى مرحلة يمكن أن تؤدى فيها إلى وقف العملية السياسية وتعطيل مسار الثورة، وإهدار طاقة المجتمع فى صراعات جانبية، والتوقف عن أى تقدم إلى الأمام، مما يهدر فرص التحول الديمقراطى، وفرص تحقيق النمو والتقدم. فمشهد الخلاف بين فريق نعم وفريق لا وصل بنا إلى مرحلة تأكد فيها أن كل فريق له اختياراته التى تميزه، وفى كل مرحلة أو موقف مهم نجد الخلاف بين الفريقين يسود المشهد، ونجد أن بعض من يحاول الوقوف بين الفريقين وفى موضع متوسط يميل إلى هذا الاتجاه ثم يميل إلى الاتجاه الآخر، مما يجعل موقفه متذبذبا. ولعل هذا الخلاف المحتدم يعكس فى الواقع الخلاف بين نموذج الدولة المنشود من كل تيار، فالدولة التى تقوم على المرجعية الإسلامية تختلف عن الدولة القائمة على المرجعية العلمانية، ولأن مصر فى مرحلة بناء الدولة الجديدة، لذا فهى فى المرحلة التى سوف تحسم فيها مرجعية الدولة، ربما لعدة عقود قادمة، ولأن خيار مصر لمرجعية الدولة له تأثير إقليمى ودولى واسع؛ لذا أصبحت لحظة حسم مرجعية الدولة هى مرحلة خطرة وفاصلة فى تاريخ مصر والمنطقة، وربما العالم أيضا. والحسم النهائى لمرجعية الدولة سوف يحسم الاختيارات لصالح تيار الأغلبية المجتمعية، مما يعنى أن فريق لا يعرف ضمنا أن حسم خيار مرجعية الدولة الآن، ومع وضع الدستور الجديد، سوف يرسم ملامح المستقبل السياسى المصرى؛ لذا نجد فريق (لا) مستعد لوقف عجلة الزمان، حتى لا تحسم مرجعية الدولة على غير رغبته.