المعارضة كما أراها وأتمنَّاها: "إن المعارضة السياسية هي الضمير الحي والحِس الواعي المُكمل والمصحِّح للمسار المُعوج لأي بلدٍ ناهض، والذي يحمل في طيَّاته تصوُّرًا وبرنامج عملٍ نسبي، يَمتلك إمكانات الإقناع والقدرة على التغيير، تحت إرادة التحسين والإصلاح والتأسيس، فهي تُناضل من أجل حرية الرأي والوجود، بالإضافة إلى أنها الرقيب على الحاكم ومؤسسات الدولة العاملة، والداعية لمُحاسبتهم إذا أفسدوا أو قصَّروا وأهمَلوا، وهي عامل للبناء جنبًا إلى جنبٍ في النظام التنموي والسياسي لأي مجتمعٍ؛ فهدفها في المقام الأول مصلحة الوطن، كما أنها تَهدف إلى إرساء السياسة المدنية التي تَعترف بالمنافسة المُنضبطة للقانون والدستور، وتَقبل التسوية والحل الوسط كآلية لفضِّ الإشكالات وتذليل العَقبات". ومصطلح "المعارضة" السياسية - تحديدًا - مقترنٌ بالأحزاب في المجلس النيابي أو مجموعات أخرى مُناوئة، تختلف بشكل كلي أو جزئي مع سياسة الحكومة أو النظام الحاكم، وتُعارض حزبًا أو مجموعة سياسية أخرى في منطقة أو دولةٍ ما، وتسعى في الحلول محلها، وتختلف المعارضة من نظام سياسي إلى آخر، ومن بلدٍ إلى آخر، حسب طبيعة كل منطقة وثقافتها الدينية والاجتماعية. وعادة ما تُمارَس "المعارضة" السياسية على أساس ثابتٍ وطويل الأمَد في الإطار الشرعي، وضمن المؤسسات الثابتة القائمة للدولة، ولكن تختلف درجتها في الأنظمة السلطوية عنها في الأنظمة الليبرالية والديموقراطية، فتكون معارضة مَقموعة في مكانٍ أو مُرحَّب بها في مكان آخر، وثمَّة دُوَلٌ لا تَسمح مطلقًا بوجود أحزاب معارضة، وفي بعض البلدان - خاصة دولَ العالم الثالث - قد تتحوَّل المعارضة السياسية إلى معارضة مسلحة، وهذا ما يسمَّى تمرُّدًا مسلحًا، وقد تَتدهور الأمور لتَصل إلى حرب أهلية أو انفصالٍ؛ كما حدث في السودان. وفي بريطانيا - على سبيل المثال - يُتيح التشريع الرسمي للمعارضة مُمارسة نشاطها بكامل حريَّتها، غير أن المعارضة قد تَرفض أحيانًا النظام السياسي القائم؛ لاختلافها معه فقط في الأيديولوجيا، وليس في الممارسات السياسية أو فساد المؤسسات وتشكيلاتها، فتتمرَّد عليه؛ مما يُضفي عليها طابع التطرُّف والشِّدة، وهو الأمر الحادث في مصر الآن. فحينما نرى قوى المعارضة المصرية حاليًّا، خاصة المعارضة التي يُمارسها بعضٌ من مرشحي الرئاسة السابقين وأنصارهم، من سرعة في خلْق أسباب الشِّقاق، وتمزيقٍ لنسيج المجتمع، وتصنيفه إلى فصائل، وممارسة الاستقطاب الذي يولِّد صراعات متزايدة، تَطول مُدتها وتشتدُّ حِدتها، فيَصعُب إزالتها، مع إبطائهم في خلْق أسباب الوفاق، إلى جانب الابتزاز السياسي، وضَغطهم المستمر في كل المواقف على الائتلاف الحاكم، فلا يهم هؤلاء المرحلة القادمة بقدر ما يهمهم المصالح الشخصية والمنافسة السياسية، والتخريب وانهيار الاقتصاد، وضرْب السياحة، والعزوف عن العمل والتشريد. فلا ننسى ما فعَله أحد المعارضين الكبار، والمحسوب على الثوَّار، عندما أعطى انطباعًا سيِّئًا عن مصر لدى المستثمرين الأجانب، وطلب من الوفد الاقتصادي الأمريكي في الاجتماع الذي جمَعه بهم في العاشر من شهر سبتمبر الماضي "ألاَّ يَستثمروا في مصر؛ بدعوى أنها غير صالحة للاستثمار حاليًّا، وبحُجة عدم استقرار الوضع السياسي وممارسات الإخوان"، فأي خيانة هذه؟! وأي وطنية تلك؟! إن ذلك ما يؤكِّد على عدمَ وطنية هؤلاء وولائهم للبلاد، فإذا كان هناك أيُّ خلاف سياسي مع أي فصيلٍ أو قوى أخرى، فلا يكون بالغدر وتَصفية الحسابات على حساب الوطن، والتلاعب بمستقبل أبنائه، بل يجب ألا يَصِلَ وألا يَمَسَّ هذا الخلاف المصالح العليا للدولة المصرية. وفي الحقيقة وواقعيًّا، تَنحصر قدرة تلك الأحزاب والقوى المعارضة على الساحة المصرية الحاليَّة في "القول"، وغير ناجحة تمامًا في "الفعل"، فضلاً عن إخفاقها في الشارع والتواصل بين الناس، ومن هنا تُقاس قدرة الأحزاب من حيث التأثيرُ على الرأي العام، وإمكانية الفعل والتحريك الجماهيري، إلا أنهم يمتلكون آلة إعلاميَّة وقنوات غير محايدة لرجال أعمال وفلول تَجمعهم المصلحة، وبمعاونة مجموعة من النُّخب المُضللة، تَظهر لنا على تلك الفضائيات وبعض الصحف؛ للتأثير على الناس، وتشويه الوعي، وتغييب الحقيقة، وتوجيههم لمسار وأفكار تلك النُّخبة والقوى المعارضة، فنلاحظ أن أكثرهم ظهورًا على الشاشات من التيار العلماني والليبرالي، الذي لا يُراعي عادات المجتمع ولا ثقافته الدينية؛ حتى إن أحد رموزهم قد خرَج علينا ذات مرة قائلاً: "إنه لا مانعَ لديه من زواج المسلمة بالمسيحي!". ونجد الآخر لا يترك موقع التدوينات القصيرة الشهير "تويتر"، فيُتحفنا كلَّ دقيقة بتغريداته العجيبة مع كل حادثٍ يَطرأ على الساحة السياسية، ويركِّز على الجوانب السلبية ويُضخِّمها، ويتجاهل أي فعلٍ إيجابي لقُوى أخرى، تقوم به القيادة السياسية الحالية.
فهذا يا سادة هو النموذج الواقعي لبعض قوى المعارضة المصرية.
معارضة قوليَّة لا فعلية، مُعيقة ومُعطِّلة، لا تقدُّمية ولا تَنموية، تَهدم ولا تَبني، مُتطاولة لا تُحسن التأدُّب في النقد، معارضة تُعلي مصلحتها الشخصية وأهدافها المَخفيَّة فوق أي مصلحة وطنية، ولعل هذا يرجع إلى غياب الولاء والانتماء لدى هؤلاء، إلى جانب عدم الحسْم والحزْم والعقاب الرادع للمتطاولين من النظام الحاكم بعد الثورة، فهناك فرق كبير بين المعارضة الهدَّامة المُخرِّبة التي تَرقى أفعالها إلى الخيانة العُظمى، وبين المعارضة الوطنية التي تَرنو إلى تقدُّم المجتمع وبناء دولة حديثة مستقرَّة، ترعى حقوق المواطنين، وتتَّحد فصائلها لبناء بلدهم وإعمارها مع المؤسسات القومية للبلاد. ومن هنا أدعو القيادة السياسية ألاَّ تُعطي وزنًا لهؤلاء، ولا تَكترث بهم، ولا تَدَعهم يَعوقوا مسيرتها نحو التقدم، كما أدعو القوى الشعبية والوطنية الشريفة، باختلاف توجُّهاتها وأيديولوجيَّاتها - وخاصة التيارَ الإسلامي؛ لِما له من تميُّزٍ وتأثير، وقدرة تفاعلية على أرض الواقع - لنبْذ الخلافات والاتِّحاد، والالتفاف حول القيادة السياسية والعمل الجماعي؛ لبناء مصرنا الجديدة بسواعد أبنائها الكادحين، ورجال الأعمال المخلصين؛ لنَعبر بها جميعًا نحو بَرِّ الأمان، في ظلِّ نظام سياسي متماسك، قادرٍ على استيعاب كافة الطوائف والأفراد والأحزاب، المختلف مع توجُّهاتها، ومثولها للمحاسبة في حال تطاول أحد على الآخر، فلا تَطغى أغلبية على أقليَّة، ولا تستفزُّ وتَبتز أقليةٌ أغلبيَّة، فيَبقى الكل أمام القانون سواءً، حينها يسود العدل ويَعمُّ الرَّخاء. [email protected]