دفعني التجاوب مع ما أحدثه ذلك الفيلم التافه الحقير من غضبة مستحقة عمت معظم البلاد العربية والإسلامية إلى العودة إلى رسالتي التي أعددتها لنيل درجة الدكتوراه، والتي خصصت قدرا كبيرا منها لبيان منهج القرآن الكريم في الدعوة إلى توقير الرسول r، فوجدت أن القرآن الكريم قد دعا المسلمين إلى توقير شخص النبي واحترامه في مواضع كثيرة، منها ما ورد في سور"البقرة"، و"النور"، و"الحجرات"، و"المجادلة"، وغيرها. ومما يمس الواقعة التي نحن بصددها قوله تعالى في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وسبب نزولها: أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبيrالشرع والوحى، يطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه؛ حتى يفهموه ويعوه، وكانوا يقولون له: راعنا يا رسول الله، أي: لا تتحرج منا وارفق بنا، فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبيr أعجبهم ذلك، وكان "راعنا" في كلام اليهود يعنى: السب القبيح، أي: اسمع لا سمعت، فقالوا: إنا كنا نسب محمدا سرا، فالآن أعلنوا السب لمحمد، فإنه من كلامهم، فكانوا يأتون النبيr فيقولون: يا محمد، راعنا، ويضحكون، ففطن لها سعد بن عبادة، وكان عارفا بلغة اليهود، فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذى نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية تنهى المسلمين عن استعمال الكلمات التي كان اليهود يستخدمونها في حديثهم إليه؛ بقصد الإساءة والدعاء عليه، وتدعوهم إلى التعبير بكلمة أخرى تؤدى معناها، بيد أنه لا تلبيس فيها ولا إيذاء للنبي. ويؤخذ من ذلك أن الانتصار للرسول r يكون بعدة أمور: أولها: أن يمتنع أتباعه عن إيذائه بأي صورة من الصور المباشرة وغير المباشرة، لئلا يتخذ ذلك ذريعة لإيذاء رسول الله r من غير المسلمين، وقد ذكر القرآن الكريم في غير موضع نماذج لهذا الإيذاء، الذي يمكن أن يحصل من المسلمين لرسولهم عن عمد من بعضهم أو جهل من معظمهم. ثانيا: نُصح المسلمين والأخذ على أيديهم ببيان عاقبة إيذاء الرسول r، وتوضيح الصور التي أشرت إلى أن القرآن الكريم قد ذكرها لإيذائه؛ لئلا يقع فيها أحد منهم. ثالثا: أن يزداد التزام المسلمين بأوامره ونواهيه ومجمل رسالته، وتلك صورة قرآنية من صور توقيره عليه السلام أرشد إليها قوله تعالى في سورة المجادلة(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وقوله سبحانه في سورة النور(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، ومما يدعم ذلك أن إيذاء أبي جهل للرسول r دفع حمزة بن عبدالمطلب إلى الإسلام، ثم جعله يذهب إلى أبي جهل ويضربه على رأسه قائلا له: أتسب محمدا وأنا على دينه؟!!! رابعا: فيما يخص موقف المسلمين من إيذاء غيرهم لرسول الله r وسلم فأعتقد أن موقف سعد بن عبادة، ومن قبله موقف حمزة بن عبد المطلب يضيئان لنا الطريق في كيفية الانتصار لرسول الله r، وأن بإمكاننا أن نتخذ كل الوسائل والتدابير والآليات التي تردع وتزجر وتؤدب كل من يسيء إلى رسولنا الحبيب من الأفراد أوغيرهم، فرسول الله r أعز عندنا من رؤساء الدول وملوك الأرض، الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها بسبب إهانة أحدهم أو الإساءة إليه، وأن ردة ذلك الفعل من الممكن أن تصل إلى حد إهدار الدم، متى كان ذلك يحقق المصلحة، ويمنع تكرار مثل هذه الإهانات، شريطة أن يكون ذلك مقصورا على من أساءوا، وألا يصاحب بشيء من التهور والاندفاع الذي يطول الأبرياء، ويشوه صورة الإسلام والمسلمين. خامسا: من الملاحظ في حديث القرآن عن توقير النبي r أن الآيات الداعية إلى ذلك كانت تأتي في صورة أوامر ونواه ربانية، مما يدل على أن الدفاع عن النبي rوالانتصار له كان يسير في عدة مسارات، منها ما هو مجتمعي(شعبي)، ومنها ما هو تشريعي(قانوني رسمي)، وأرى في ذلك دعوة ولاة أمور المسلمين لأن تكون لهم مواقف قوية رسمية ودولية تمنع تكرار مثل تلك السفالات وتحذر وتتوعد من يقدم عليها، فإذا كان الله تعالى جل شأنه ينزل من الآيات ما يوضح به عاقبة إيذاء رسوله، فالأولى بالشعوب والحكام أن يفعلوا مثل ذلك. سادسا: موقف حمزة كان في مكة، وموقف سعد كان في المدينة، ومن المعلوم أن المسلمين في مكة كانوا مستضعفين بعكس ما كانوا عليه في المدينة، وعلى ذلك فإن الرد على الإساءة للرسولrلا ينبغي أن يخضع لحسابات القوة والضعف، أو المصالح المشتركة، أو غيرها من الحجج الواهية، إذ لا وجاهة لحجة، ولا عذر لمتقاعس، ولا خير في مصلحة تأتي على حساب رسولنا المكرم صلى الله عليه وسلم. ألا هل بلغت... اللهم فاشهد.