يبدو أن الليبرالية لدينا لها مفهوم مختلف تماما عن المفهوم الذي يعرفه الكافة والسائد في جميع أنحاء العالم. الليبرالي لدينا يظل يشيد بحرية الرأي ويلح عليها ويرحب بالنقد ويصر عليه، ولا يزعجه أن أن يتعرض شخصيا للنقد من جانب الآخرين، ولا يضايقه أن يخالف أحد رأيه، ولا ينكر علي الآخرين آراءهم المغايرة أو حتي المناقضة لرأيه ولا يسعي لمصادرة هذه الآراء المخالفة لرأيه، بل علي العكس يبدي دائما قبوله لها تطبيقا لمقولة لوتير الشهيرة: "رأيي يخالف رأيك ولكني علي استعداد لأن أضحي بحياتي دفاعا عن حقك في التعبير عن رأيك" ولكن عندما ينتقل الليبرالي من مقاعد المواطنين العادين ليجلس علي أحد مقاعد المسئولين ينقلب حاله تماما ويتغير كثيرا.. ينسي كل مبادئه القديمة ومواقفه، ويتحول إلي شخص آخر، يضيق صدره بالنقد، ويعتبر النقد لسياساته وتصرفاته وقراراته هجوما علي شخصه وذاته.. ويعتبر رأيه دائما هو الصواب ورأي الآخرين خطأ.. بل لعله أحيانا يعتبر مجرد أن يدلي أحد برأيه جريمة يجب أن يعاقب عليها! مفهوم طبعا أن نصادف مسئولين يزعجهم النقد ولا يحترمون آراء الآخرين المخالفة لآرائهم، ويحبون دائما الاشادة المستمرة بهم وبما يفعلونه.. ولكن الذي ليس مفهوما أن يكون من بين هؤلاء المسئولين من يعتنقون الليبرالية، وكانوا يناضلون من أجل تطبيقها في الاقتصاد والسياسة وكل شئون الحياة.. فهل مقاعد السلطة لها هذا التأثير العجيب والغريب في معتقدات البشر وآرائهم ومواقفهم الفكرية والسياسية إلي هذا الحد؟.. أم أن هؤلاء السادة الليبراليين ليسوا بليبراليين حقا وإنما كانوا يتظاهرون فقط بذلك، ربما لأنها موضة العصر، أو لأنها الوسيلة الأكثر نجاحا للوصول إلي مقاعد السلطة؟ نعم.. إن مفهوم الليبرالية ذاته يتعرض الآن لاعتداء صارخ وحاد في العالم كله سواء في جانبه السياسي أو جانبه الاقتصادي.. حيث تتعرض حريات المواطنين العاديين حتي في أعتي البلاد الليبرالية، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة، لاعتداءات وتجاوزات صارخة.. وحيث تتعرض حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، خاصة للبسطاء وغير القادرين للانتقاص والاهمال لدرجة شاع معها في أوروبا أن الليبرالية الجديدة في العالم صارت ليبرالية متوحشة، في ظل سيطرة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدةالأمريكية، الذين اتخذوا إجراءات عديدة تحد من حريات المواطنين، وتمنح أجهزة الأمن سلطات واسعة في الاعتقال أو التفتيش والمراقبة، وأيضا انجازوا للأغنياء علي حساب أبناء الطبقة الوسطي، خاصة فيما يتعلق بالعمل والتأمين الصحي والضرائب علي وجه التحديد. ولكن.. كل ذلك رغم جسامته وضخامته وتأثيره الهائل علينا في مصر لا يبرر أن يناقض الليبرالي نفسه وينقلب علي أفكاره ومبادئه بهذا الشكل عندما تتاح له الفرصة للجلوس علي أحد مقاعد المسئولين. ولا أقصد هنا أن المحافظين الجدد مازالوا يتظاهرون بالليبرالية أو أنهم لا يفعلون مثلما يفعل بعض الليبراليين في مقاعد المسئولين عندنا حيث إنهم لم يخلعوا أردية الليبرالية كلها ولا يصادرون الآراء المخالفة لهم، وإن كانوا لا يستجيبون لها بالطبع، مثلما حدث بشكل صارخ جدا في حرب العراق، حينما لا تثنهم المعارضة الأوروبية القوية والرفض العالمي الواسع عن شي هذه الحرب علي العراق وغزو أراضيه. ولكن الذي أعنيه هنا هو اصرار بعض الليبراليين حينما يصلون إلي مقاعد المسئولية علي الازدواجية في العمل.. يسعون إلي تطبيق سياسات مفرطة في الليبرالية في المجال الاقتصادي.. بينما يسلكون مسلكا معاديا تماما لليبرالية في مواقفهم السياسية والعمل العام. فهم متحمسون جدا لالغاء الدعم والاسراع ببيع كل الشركات العامة بلا استثناء ويستخفون بمن يتحدثون عن شركات استراتيجية يجب الاحتفاظ بها. وهم يرفضون بل ويستنكرون مجرد المشاركة الحكومية في توفير بعض فرص العمل، ويسعون للتخفف سريعا وبشكل متعجل من كثير من الاعباء الاجتماعية في شتي المجالات، التعليم والصحة وغيرها ولكنهم في المقابل لا يقبلون أن ينقذهم أحد أو يتحفظ علي بعض قراراتهم وأعمالهم. ويرفضون مجرد سماع الرأي المخالف، ويعتبرون رجسا من عمل الشيطان، لأنهم في اعتقادهم هم وحدهم الذين يملكون ناصية الحقيقة، ويحتكرون الحكمة وحدهم، كما أنهم وحدهم هم الذين يفهمون. وهذا أمر غريب وعجيب.. كيف يكون المرء ليبراليا في أمر ومعاديا لليبرالية في أمر آخر؟ أو كيف يكون نصف ليبرالي ونصف معادي لليبرالية؟! هنا من حقنا أن نتشكك في ليبرالية مثل هذا المسئول.. فهي ليبرالية غير صادقة أو مفتعلة وغير سليمة أو أنه يتظاهر بالليبرالية بينما يضمر في صدره أفكاره ومبادئ أخري تماما مناقضة لمفهوم الليبرالية. ولن يصدق أحد أن مثل هؤلاء ليبراليين حقا إلا إذا تخلصوا من هذه الازدواجية الغريبة والمستهجنة، وانتهجوا سبيلا واحدا في كل الأمور وكل المجالات، وطبقوا مبادئ الليبرالية مع المخالفين لهم في الرأي، وعادوا يتقبلون النقد، ولا يعتبرون من ينقدهم عدوا أو خصما لهم، لأنه لا يصح أن تكون ليبراليا نصف الوقت فقط! فهل سيحدث ذلك؟ نتمني.. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.