بدأت كل من مصر والهند مشروعها الوطني الحديث في وقت واحد تقريبا، وانطلق المشروعان المصري والهندي من رؤية متشابهة الي حد بعيد، وربطت بين زعيمي المشروعين التاريخيين، سعد زغلول والمهاتما غاندي، ثم جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو، علاقات وثيقة ووشائج فكرية وسياسية حميمة، جعلتهما رمزين للعالم الثالث بأسره وبلدان عدم الانحياز وحركة باندونج. لكن المشروع الهندي انطلق إلي آفاق رحبة وحقق نجاحات مذهلة علي اكثر من صعيد، رغم ضخامة التحديات المحلية والاقليمية، حتي بعد انتقال آل نهرو إلي الظل وخفوت المعارضة عقودا طويلة، بينما أصابت المشروع المصري "نكسات" وعثرات عديدة ليس هذا المجال الاسهاب في الحديث عنها. وبالنتيجة تراجع الطموح المصري الي حدود بالغة التواضع لا تتناسب مع ما تملكه مصر من قدرات ومقومات ومؤهلات وإمكانيات وملكات ومزايا نسبية ومطلقة. ولهذا.. فإننا عندما نلقي الضوء علي التجربة الهندية، في التنمية والديمقراطية، فإنما نفعل ذلك ليس فقط من باب العلم بالشيء وإنما أيضا وأساسا لنتعلم من دولة صديقة بدأت معنا تقريبا أحلام ما بعد الاستقلال عام 1947، وهو نفس العام الذي واجهتا فيه الهند تحدي انفصال جزء من شبة القارة الهندية لتتأسس عليه دولة باكستان علي أساس ديني (اسلامي)، وواجهت فيه مصر والبلدان العربية تحدي إقامة دولة إسرائيل علي ارض فلسطين وعلي أساس ديني أيضا (يهودي) وكانت الأصابع الإنجليزية هنا وهناك. وقد عرضنا في المقالات السابقة لبعض ملامح النهضة الهندية "الشرسة" ومعدلات النمو الكبيرة والمتسارعة والخطوط العريضة للمشروع الاقتصادي الهندي الطموح الذي نجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب الغذائية وإنتاج فائض كبير للتصدير الذي تقوم فيه بدور بالغ النشاط والفاعلية هيئة تنمية صادرات المنتجات الزراعية والأغذية المصنعة APEDA ورئيسها النشيط والمثقف والصديق لمصر ك . س . موني. والي جانب هذه "الثورة الزراعية" حقق الاقتصاد الهندي نجاحا غير مسبوق ومعدلات نمو كبيرة حتي بين بلدان العالم المتقدم في مجال البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، حيث حققت الهند قفزات هائلة لمعدلات النمو سواء في الإنتاج أو التصدير خلال السنوات العشر الماضية، وتمكنت الهند بذلك من ايجاد قواعد تكنولوجية في عدد من المدن مثل بنجالور وحيدر اباد التي أصبحت لها سمعة عالمية كبيرة، بل وقامت كبريات الشركات الدولية المعروفة، مثل ميكروسوفت، بفتح فروع لها بتلك المدن. واللافت للنظر، والمثير للإعجاب أيضا، ان الهند -في نفس الوقت الذي حققت فيه هذه "الثورة التكنولوجية"- لم تهمل القطاعات التقليدية، ومنها علي سبيل المثال قطاع الحرف اليدوية. وقد حضرت أثناء وجودي في الهند معرض الربيع للحرف التقليدية في الفترة من 25 فبراير إلي أول مارس، وهو أحد معرضين يقامان سنويا لهذا القطاع ويعقدان بانتظام منذ عام 1994، واصبحا من بين اكبر معارض الحرف اليدوية التي يتم تنظيمها في جنوب شرق آسيا. ومعرض الربيع ليس سوي مظهر واحد من مظاهر الاهتمام الهندي بهذا القطاع، وهو اهتمام ينبع من رؤية شاملة خلاصتها ان قطاع الحرف التقليدية هو أحد أهم القطاعات الحاملة للتراث الذي يجب حمايته والحفاظ علي تقاليده العريقة وبالإضافة الي هذا المنظور الحضاري ينظر المسئولون الهنود الي قطاع الحرف علي انه يساعد علي حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للحرفيين، إذ يوفر فرص عمل لاكثر من ستة ملايين شخص يعملون في هذه الحرف من بينهم عدد من النساء والأشخاص الذين ينتمون الي الفئات الأضعف من المجتمع وبالإضافة الي إمكانيات هذا القطاع من توليد فرص للعمل فانه يكتسب أهمية اقتصادية من زاوية انخفاض رأس المال المستثمر، وارتفاع معدل القيمة المضافة والإمكانيات الكبيرة للتصدير وحصول البلاد علي عوائد بالعملات الأجنبية. فضلا عن ان هذه الصناعة كثيفة العمالة وغير مركزية، حيث تنتشر في شتي ربوع الهند ومناطقها الريفية والحضرية علي حد سواء. ومع ذلك فان المسئولين الهنود يرون أن قطاع الحرف مازال يحتاج إلي مزيد من الاستكشاف لمناطق توجد بها إمكانيات غير مرئية بعد وكنوز لاتزال مخبوءة. ويري المسئولون الهنود ان الستة ملايين شخص العاملين في هذا المجال والذين يشكلون العمود الفقري للصناعة الحرفية يمتلكون مهارات وتقنيات وتقاليد حرفية موروثة تتناقلها الأجيال قد تكون كافية للمرحلة السابقة لكن السوق العالمي المتغير يستوجب تقديم دعم مؤسسي لهؤلاء الحرفيين اليوم حتي يكونوا علي مستوي يسمح لهم بالتنافس مع نظرائهم في الصين وكوريا وتايلاند.. الخ.