إكرام يوسف تمنيت لو كنت أعرف كيف اطلق زغرودة عالية تعبر الحدود لتصل إلي الوطن، لكنني سمعت قلبي يطلقها.. تتردد في صدري، وتصل إلي سمعي.. بعدما علمت قرب تعديل الدستور المصري بحيث يسمح بالانتخاب بين أكثر من مرشح واحد للرئاسة.. وليقل المحللون الجهابذة إذا ما يشاءون (استجابة لضغوط أمريكية، التفاف علي مطالب المعارضة، الضوابط علي التعديل ستجعله منقوصاً... إلخ".. لتكن الانتقادات ما تكون، فلا اعتقد أن في الدنيا واهماً واحداً يعتقد أن الحياة سيصبح لونها "بمبي" هكذا! بين عشية وضحاها!.. لاشك أن هذا ليس غاية المراد من رب العباد، في بلد لم يعرف منذ فجر التاريخ سوي الحاكم الأوحد.. ولاشك أنه ما من حاكم يتمتع بسلطة مطلقة سيتخلي بأريحية ذاتية كاملة عن هذه السلطة بمحض إرادته.. ومن المؤكد أن من بيدهم التعديل سيحاولون التضييق بكل ما يستطيعون من حجم المكاسب التي يمكن أن يحصل عليها المتنافسون.. ومن قبيل تحصيل الحاصل إن أي انتخابات تعددية، حرة، ونزيهة، تجري في مصر الآن سيفوز فيها بالتأكيد (علي الأقل هذه المرة) رموز النظام الحالي في مصر.. لسبب يعرفه الجميع، وهو أن جميع القوي السياسية المعارضة (بما فيها الإخوان المسلمون بالمناسبة) لم تضع في اعتبارها إمكانية أن يحدث هذا التعديل بهذه السرعة، وبالتالي لم تعد رمزاً من رموزها أو أكثر لخوض انتخابات من هذا النوع.. كما أنها تفتقر إلي الخبرة الفنية والإمكانيات المادية اللازمة لخوض حملات انتخابية بهذا الحجم.. فضلاً عن ان المجتمع المصري بأسره لم تتخلص غالبيته بعد تماماً من ثقافة الحاكم الفرعون، والد الجميع، وكبير العائلة، التي تمتد جذورها إلي ما يربو علي سبعة آلاف عام. ولعل هذا بالتحديد هو ما يملؤني فرحاً بالتعديل المترقب.. فأخيراً ستنفتح طاقة نور في ذهن بسطاء المصريين لتدخلها خبرة معرفية جديدة، مفادها انتهاء فكرة هذا الحاكم الوالد، الحكيم، العليم، الذي يفهم مصلحتنا أكثر منا جميعاً، وما علينا سوي أن ننصاع لكل ما يراه لنا فهو الخير وما عداه باطل.. وأن مجرد التفكير في انتقاد رأي للحاكم يخرج صاحب هذا التفكير من خانة الوطنيين ويصمه بالعمالة، وربما يخرجه أيضاً من باب الدين ويدخله في خانة الخوارج أو الكفار الذي يعصون "أولي الأمر منكم". ولاشك أن هذا التعديل المرتقب سيكتب في التاريخ مرتبطاً باسم الرئيس حسني مبارك سواء لاقت هذه الفكرة هوي بعضنا أو تعارضت مع هواه.. فللمرة الأولي يعلن هذا الموقف حاكم مصري!، ما علينا من الدوافع هنا التي قد نتفق أو نختلف فيها جميعاً أو بعضها.. لكنه في الواقع، وللتاريخ، هو الذي أعلنها ونطقها بلسانه.. غير أن التاريخ أيضاً لن ينسي أن يذكر أن هذا التعديل لم يكن وليد اللحظة، وإنما كان ثمرة نضال وكفاح وتضحيات المصريين عبر العصور.. فقد عاش أبناء جيلي زمناً كان آباؤنا ونحن أطفال لا يجرؤون علي ذكر اسم الحاكم دون أن يتلفتوا حولهم.. ولم يبدأ المصريون في انتقاد حاكمهم علناً إلا بعد نكسة 1967.. وكم دفع شرفاء ثمن هذا الانتقاد من حريتهم وأرزاقهم، بل.. ومن حياتهم.. وعاد المصريون إلي صبرهم المعهود بعد تولي السادات حكم مصر، ترقباً لما ستسفر عنه الأحداث، ولكن الجرح الوطني ظل يلهب الوجدان، رغم أنه كان سبباً في تردد البعض في المطالبة بالحريات خشية أن يؤثر هذا علي الاستعداد للمعركة، فما أن استشعر المصريون تلكؤا حتي عاودوا الانتفاض في 1972 مطالبين بمعركة تحرير (ودفع كثيرون أيضاً ثمن هذه المطالبة) لكن مطالب الديموقراطية ظلت أيضاً في آخر القائمة.. وعاود المصريون الانتفاض في يناير 1977 في هبة مثلت نقطة تحول في وعي الشعب والحاكم معاً، لكنها مثلما سماها محللون كانت انتفاضة الجياع في وجه معطيات مجتمع بدت صورته ترسم استقطاباً اجتماعياً حاداً، بانت منه الفجوة واضحة بين طبقة صاعدة يملك أبناؤها كل شيء ويعيشون حياة الترف والبذخ من ناتج أنشطة سميت وقتها "طفيلية" أو ربما "مشبوهة" وبين من لا يملكون قوت يومهم.. لكن المطالب الديموقراطية كانت قد بدأت تظهر علي استحياء، وظلت من وقتها تنمو، وتنمو تدريجياً بعدما تربي في وعي الناس خبرة تراكمية ربطت بين "الحرية والرغيف" فتعالي شعار "الحرية والرغيف هما مطلب كل شريف".. وهو شعار سمعناه للمرة الأولي ربما في مظاهرات نوفمبر 1976.. ومع ذلك ورغم كل هذه النضالات، ظل بسطاء يرددون رغم قسوة حياتهم "احنا حنفهم أكتر من الحكومة؟".. "كتر خير الريس حيعمل ايه واللا ايه؟". ما أريد أن أؤكد عليه أن هذا التعديل لم يكن وليد لحظة، وليس بالتأكيد هبة، وإنما هو حق مدفوع الثمن مقدماً علي مر عشرات العقول.. كما أنه ليس بداية، ولن يكون أيضاً نهاية، فالتاريخ لن يعود للوراء.. وحتي لو كان البعض يعتقدون (أملاً أو خشية) أنه يمكن لضوابط ما أو قيود معينة أن تفرغ مثل هذا التعديل من محتواه الحقيقي، فهذا ل