ما لم تحدث مفاجآت في التنفيذ فإن قرار تحويل ملف الديون العراقية للخارج إلي نادي باريس توطئة لشطب 80% من ديونه للدول الكبري يعد واحدا من القرارات الايجابية القليلة التي صدرت بحق العراق الجريح منذ شن الحرب عليه في مارس من العام الماضي. القرار الذي جري اعلانه علي هامش انعقاد مؤتمر وزراء مالية الدول العشرين في برلين يوم السبت الماضي يأتي محصلة لجهود مكثفة بذلتها الولاياتالمتحدة في هذا المجال بدأت تقريباً فور انتهاء الحرب وكانت تلقي صدا وعروضا كبيرين من معظم الدول الدائنة وعلي الأخص في أوروبا، وطوال الشهور الماضية كانت المفاوضات حول الديون العراقية وأوضاعه الاقتصادية بصفة عامة مثار شد وجذب شديد بين أمريكا من ناحية وكل من فرنساوألمانيا وروسيا والصين وبعض دول الخليج من ناحية ثانية حيث كان الكل ولأسباب مختلفة يماطل في منح موافقته علي شطب الديون أو خفضها لاعتبارات سياسية في المقام الأول. القرار يسمح بمناقشة ديون بقيمة تتراوح بين 33 و42 مليار دولار مستحقة لعدد من الدول الأعضاء لاتفاقية نادي باريس والاتفاقية تفتح الباب للبحث في جل ديون العراق البالغة نحو 130 مليار دولار وفقاً لأقل التقديرات ومعظم الديون المتبقية تستحق لدول الخليج ما بين مساعدات وقروض حصل عليها العراق في الثمانينيات. المعضلة التي كانت تقف حائلاً دون التوافق علي حل بشأن ديون العراق لم تكن أبداً تتعلق بإصرار هذه الدول علي الحصول علي مستحقاتها تجاه العراق فالكل يعلم أن الاقتصاد العراقي ولسنوات لن يكون قادراً علي مواجهة نفقاته فضلاً عن تسديد ديون الآخرين، ومع تدهور الأحوال المعيشية والأمنية في العراق بسبب الاحتلال ومقاومته فإن المتوقع أن موارد العراق الاقتصادية قد ضعفت كثيراً وأصبحت غير قادرة علي الوفاء باحتياجات شعبه وفقاً لما هو مشاهد بوضوح هناك من تضعضع المنشآت الاقتصادية والتدمير المنتظم في مرافق النفط وتفشي البطالة والفقر وأعمال العنف بمظاهرها المشروعة وغير المشروعة. مشكلة الدول الدائنة كانت دائماً ولاتزال هي الحفاظ علي مصالحها في العراق الجديد، وبالنسبة للأوروبيين فإن العراق صاحب ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم وأقلها من حيث تكلفة الإنتاج يمثل أحد موارد الامدادات النفطية لهم وللصينيين أيضاً ولدول أخري تنمو بسرعة في جنوب آسيا، وهم يسعون إلي سبر اغوار المخططات الأمريكية المستقبلية بشأن العراق ونفطه ونفط المنطقة في زمن يزداد فيه الطلب علي النفط إلي حدود مزعجة للجميع. وبعيداً عن أوهام المشاركة في "كيكة" اعادة الإعمار التي شغلت الناس والإعلام لعدة شهور علي غير الواقع، فإن الأوروبيين والصينيين يهمهم المشاركة في الاستثمارات النفطية في العراق الجديد خاصة وأن لهم تاريخا في هذا المجال، وكانت الولاياتالمتحدة دائماً تماطل في الموافقة علي هذا التوجه فهل طرأ جديد يدعو الأوروبيين وغيرهم للتخلي عن تحفظاتهم السابقة بشأن العراق وديونه واقتصاده وإعماره؟ الوضع بالنسبة لدول الخليج أقل تعقيداً فالدول المجاورة للعراق لا تطلب أكثر من الأمان في طموحات العراق وجموحاته والتي كلفتهم الكثير سياسياً واقتصادياً وبشرياً خلال حكم صدام حسين وهم يريدون الاطمئنان إلي أن الحكم الجديد في العراق سوف يكون قادراً علي السيطرة علي الأوضاع الداخلية الملتهبة بفعل الموزاييك العرقي والديني علي أرض العراق والذي حكمه نظام البعث بالحديد والنار. إن إحالة ملف الديون العراقية إلي نادي باريس يمثل تطوراً متقدماً في الأزمة العراقية برمتها وليس علي الصعيد الاقتصادي فقط ولابد من استنتاج أن الأيام الماضية شهدت ربما خلف الكواليس بعض التطمينات أو التنازلات الأمريكية التي قدمتها للدول ذات العلاقة سمحت بعد ذلك بانتزاع موافقتهم علي شطب هذه الديون علناً بعد أن كانت عملياً غير قابلة للسداد وهو تنازل سياسي كبير من هذه الدول خاصة أن الذي أعلن القرار وزير مالية ألمانيا أحد أهم الدول التي عارضت ومازالت غزو العراق، ولو سارت الأمور علي هذا النحو فقد يصح إشاعة بعض أجواء التفاؤل بشأن الأزمة العراقية التي ألهبت مشاعر ومصالح الجميع وفي القلب منطقة الشرق الأوسط ودولها التي تأثرت وتتأثر أكثر من غيرها بما يحدث في العراق وحوله.