اخترع أصدقاؤنا من دعاة الليبرالية، التي يزعمون أنها "جديدة" بعدما كشفت الليبرالية القديمة عن وجهها البشع وسيلة سهلة لإرهاب من يخالفونهم في الرأي.. فكلما تحدثت عن أطماع الآخرين في منطقتنا، أو حذرت مما يجروننا إليه من خراب.. تجد من ينظر في عينيك باستعلاء ويشير إليك بسبابته مهدداً "ها.. أنت إذا من المؤمنين بنظرية المؤامرة؟".. وما عليك حينها سوي أن تترك ما كنت تتحدث فيه لتحاول بكل طاقتك أن تدفع عن نفسك تهمة الإيمان بنظرية المؤامرة كما لو كانت سبة نافية للإيمان بالله لا سمح الله... وحتي أوفر علي قارئي العناء.. سأقولها وأجري علي الله كما قلتها في كتابات سابقة "إنني من عتاة المؤمنين بنظرية المؤامرة" ولا يحمر وجهي خجلاً وأنا أعلنها بالفم الملآن.. فلننته إذا من هذه المشكلة لننظر في الموضوع.. والآن، فليقل لي أحد الكارهين لنظرية المؤامرة، ماذا كانت وكالة الصهيونية العالمية تفعل في أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت تقوم بكل جهود جمع يهود العالم وتهجيرهم إلي فلسطين؟ ألم تكن مؤامرة لانتزاع أرض من شعبها؟ وماذا كان الكيان الإسرائيلي يفعل منذ إنشائه وحتي الآن؟ غير مؤامرة تلو أخري لتكريس الوجود الأجنبي في المنطقة وحماية مصالح الطامعين في ثرواتنا وموقعنا، والحيلولة دون انشغال أي من دولنا بتحقيق تنمية حقيقية تمكنها من الوقوف في وجه هذه الأطماع.. وماذا كانت السفيرة الأمريكية في العراق تفعل عندما أقنعت صدام حسين بأن بلادها لن تتدخل إذا غزا الكويت؟ ومن الذي أبلغ صداماً أصلاً أن الكويتيين يسحبون البترول العراقي من تحت الحدود؟ وهل كان غزو العراق واحتلاله باختلاق ذرائع من قبيل أسلحة الدمار الشامل وتخليص العراق من حاكم ظالم سوي مؤامرة؟ وهل كان تخليص العراق من حاكم مستبد يستحق دفع كل هذا الثمن من قتل لعشرات الآلاف من المدنيين وانتهاك كرامة أبناء العراق في سجون المحتل، ونهب ثرواته الطبيعية وتوزيعها علي "المحاسيب" من أصحاب الشركات الغربية، بل ونهب تاريخ العراق والسعي لتزييفه عبر نهب متحف بغداد وسرقة وثائقه لتزويرها؟ وبماذا نسمي سياسة فرق تسد التي تفعل فعلها بين أبناء البلد الواحد وبين الشعوب العربية بعضها وبعض إن لم تكن مؤامرة؟ وبماذا نسمي دعم الحكومات المستبدة ومساعدتها علي قمع حريات شعوبها طالما كانت تقدم فروض الولاء والطاعة لأطراف بعينهم خارج الحدود؟ ولا تنتبه هذه الأطراف إلي ملفات حقوق الإنسان لدي هذه الحكومات إلا عندما تبدأ إحدي هذه الحكومات في التراخي في تقديم فروض الطاعة أو إظهار قدر ولو ضئيل من التململ؟ يتفق أصدقاؤنا الكارهون لنظرية المؤمرة، والنافون لوجودها أصلاً، علي مقولة واحدة يرددونها جميعاً: "لكل دولة الحق في أن تحدد مصالحها وتعمل علي تحقيقها، وأمريكا لديها مصالح في المنطقة ومن حقها أن تدافع عنها، ولكن ماذا فعلتم أنتم للدفاع عن مصالحكم؟".. يقولونها لك بثبات ولسان حالهم يقولون: "ها قد أفحمناكم.. فما أنتم قائلون".. ولهؤلاء أقول من الذي قال أصلاً إن من حقي أن أعتبر أن مصلحتي في أن أنهب بيتك وأسرق مالك؟ ويكون من حقي وقتها أن استدرجك خارج البيت ثم أعقد صداقة مزعومة مع أحد أبنائك الفاسدين حتي يدخلني إلي البيت ويمكنني من مفاتيحه.. وأقول لك لقد سعيت لتحقيق مصلحتي فلماذا لم تأخذ حذرك وتربي أبناءك علي الحذر من رفاق السوء؟.. يقولون لنا إن علي شعوبنا أن تترك جانباً القضايا الخارجية "مشكلة فلسطين والعراق.. مثلاً!!" وتلتفت للأخذ بأسباب الديموقراطية واللحاق بركب التطور والتكنولوجيا وبناء المواطن.. هه.. ومن الذي سيسمح لك يا هذا بشيء كهذا؟ هل تعتقدون فعلاً أن الطامعين في منطقتنا وموقعها وثرواتها "من الفرات إلي النيل" سيتيحون لأي من شعوبنا أن تقف علي قدمها فعلاً وتحقق تنمية ذاتية قائمة علي العمل والتكنولوجيا وتحقيق الديموقراطية الفعلية كما يقولون؟ إن تحقيق الديموقراطية الحقيقية التي تعني حكم الشعب تعني أمراً أساسياً: أن يتولي حكم الشعب أبناؤ الذين لن يقبلوا بنهب ثرواتهم، فهل سيسمح لنا سادة النظام العالمي الجديد بهذه الديموقراطية التي تحرمهم من هذه الثروات وتوجهها لتحقيق تنمية بلداننا فنستطيع الوقوف بوجه أطماعهم؟ ولعلي لست مضطرة لأن أذكركم بمحاولات فردية للالتحاق بركب العلم والتكنولوجيا وكيف كانت نتائجها؟ أين ذهبت عالمة الذرة المصرية سميرة موسي؟ وأين ذهب يحيي المشد؟ وأين ذهب المفاعل النووي العراقي؟ وأين ذهبت محاولات تحقيق قاعدة صناعية وليدة في مصر في الستينيات؟ وأين ذهبت محاولات تحقيق التكامل العربي الاقتصادي؟ إن لم تكن تلك المؤامرة فكيف تكون المؤامرات إذاً؟ دعوني أتمادي فيما تعتبرونه من غي لأقول لكم إن حتي ظاهرة الإرهاب التي نالت بلداننا منها الكثير إنما هي في الأصل نتاج نظرية المؤامرة، وإلا فمن الذي صنع بن لادن والقاعدة وسلحهم ودربهم، بل ودفع مواطنين