قد لا يعرف هذا الجيل ان الباحث الاقتصادي الشاب د. صليب بطرس كلفه بشكل سري محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر وقتئذ باعداد دراسة شاملة عن الابعاد الخارجية والداخلية لاعلان قرار بفصل الجنيه المصري عن قيمة الجنيه الاسترليني وتم هذا التكليف بتزكية من وكيل وزارة المالية وقتئذ محمود الدرويش وذلك عقب عودة النقراشي باشا من نيويورك بعد ان عرض قضية استقلال مصر علي مجلس الأمن عام 1947.. وبقيت قيمة الجنيه المصري أعلي من قيمة الجنيه الاسترليني حتي يوليو 1952. سمعت عنه كثيرا من قبل وان كنت لم اتشرف بمعرفته شخصيا الا في أوائل الثمانينيات عندما كان الراحل العزيز يتولي مكتب البحوث الاقتصادي بالسفارة الامريكية بعد ان غادر موقعه كعضو مجلس إدارة منتدب لمؤسسة اخبار اليوم منهيا معاناته من "المشادات والخلافات" مع رئيس مجلس الادارة في ذلك الوقت المرحوم موسي صبري الذي استغل نفوذه في عدم التجديد له بعد سن الستين كما الآخرين في سائر المؤسسات الصحفية القومية.. وكانت تقاريره الاقتصادية التي تصدر عن السفارة موضع احترام لكل متابع لموضوعيتها ومصداقيتها وحرصها علي مراعاة البعد الوطني. تباعد الاتصال بيننا بعد ذلك حتي فوجئت به عبر التليفون في نوفمبر 1986 محذرا لي من نتائج ما كتبت وكنت قد بدأت الحملة علي شركات توظيف الاموال في مجلة "المصور" وجريدة "الأهالي" ووقف المودعون امام هذه الشركات بالآلاف يسحبون اموالهم وللأسف اعادوا ايداعها بعد ذلك تحت وطأة الدعاية الممزوجة بسحر الدين. قال لي بالحرف الواحد: لقد دخلت جحر الثعابين السامة.. ربنا يحميك. ثم انقطع الاتصال ثانية حتي جمعتنا جلسات عمل واحدة حيث كنا مجموعة صغيرة جمعنا الكاتب الصحفي عماد الدين اديب نتناقش ونتحاور حول "اصدار صحيفة يومية اقتصادية" سميت فيما بعد "العالم اليوم" وكان الراحل الكريم يجلس معنا اذ كان يتولي اعداد "دراسة جدوي" للمشروع وكان يشارك في دراسة الجدوي هذه الدكتور مدحت حسانين وزير المالية فيما بعد. ويرجع اختيار د. صليب بطرس لدراسة جدوي مشروع صحيفة الي خبرته الواسعة في الادارة الصحفية فقد كان موضع اختيار استاذ الادارة الصحفية المرحوم د. سيد ابو النجا عندما كان يدير "جريدة المصري" التي صادرها جمال عبد الناصر عقب ازمة مارس 1954 ولكن المرحوم مصطفي أمين صاحب دار أخبار اليوم وكان لا يزال صاحبها اختار الاثنين لادارة اخبار اليوم: د. سيد أبو النجا ود. صليب بطرس، لكن بعد انتقال محمد حسنين هيكل من اخبار اليوم الي الاهرام اراد الاستفادة بهما غير ان مصطفي أمين تدخل وطلب ان يستمر د. صليب بطرس مسئولا عن ادارة اخبار اليوم وبقي بها حتي بعد التأميم وتعاقب عليه عدد من رؤساء مجالس الادارة فيما بعد: كمال الدين رفعت وأمين هويدي وخالد محيي الدين ومحمود أمين العالم والأخير موسي صبري، وبقيت صلة التشاور والصداقة بين سيد أبو النجا في الأهرام وصليب بطرس في اخبار اليوم ثم كان اندماج المؤسستين تحت رياسة محمد حسنين هيكل وهو الاندماج الذي لم يدم طويلا. ولانه "استاذ ادارة صحفية" قام بتدريس هذه المادة لاجيال من خريجي كلية الإعلام، وكانت جريدة "الوفد" مقدمة علي تطوير في الادارة والتحرير عقب تولي رياسة الحزب د. نعمان جمعة الذي رأي ان يتولي د. صليب بطرس منصب نائب رئيس مجلس ادارة الجريدة باعتباره هو رئيس المجلس بصفته رئيسا للحزب. وحدث ان تطاول احد رؤساء تحرير الجريدة علي د. صليب بطرس بسبب خلافات مالية، فما كان من رئيس الحزب د. نعمان جمعة الا ان اصدر قرارا علي الفور بفصل رئيس التحرير الذي سمح لنفسه ان يسيء الي د. صليب بطرس رغم التكلفة لأعباء فصل رئيس التحرير. روي لي المرحوم انطون سيدهم صاحب امتياز جريدة "وطني" في ذلك الوقت ان صليب بطرس الشاب الثائر كان له موقف وطني رائع داخل جمعية الشبان المسيحية.. كان بعض المؤسسين قد اقترحوا تسمية الجمعية "جمعية الشبان المسيحيين" ووقف صليب بطرس علي رأس مجموعة من الشباب ضد هذه التسمية لان ذلك يقصر عضويتها علي المسيحيين فقط وفاز اقتراحهم بأن تكون "جمعية الشبان المسيحية" وتفتح عضويتها لغير المسيحيين وكان من قادة الجمعية الشيخ محمد خطاب "رئيسا لجماعة الحكماء" بالجمعية التي تدير الندوات والحوارات وكان من بين اعضاء هذه الجماعة الشاعر صالح جودت والشاعر خالد الجرنوسي والشاعر خليل جرجس خليل والمفكر العملاق سلامة موسي الذي تولي مسئولية لجنة الثقافة بالجماعة، كما كان الشيخ محمد خطاب عضوا بمجلس الشيوخ وهو صاحب أول مشروع لتحديد الملكية الزراعية. وكانت التسمية التي ناضل من اجلها صليب بطرس ردا علي ما اعلنه عبد الحميد سعيد عند انشاء "جمعية الشبان المسلمين" وكان عبد الحميد سعيد واحدا من الذين انضموا للمنشقين علي الوفد وسعد زغلول وان كان هو أصلا من الحزب الوطني، وشارك مع جماعة "المنشقين" الذي شكلوا حزب الاحرار الدستوريين في نشر افكار الفتنة الدينية بهجومهم علي حزب الوفد باعتباره "حزب الاقباط"، كما اطلقوا عليه، مع انهم جماعة اعتبرتهم السفارة البريطانية "مجموعة العقلاء" في حين اطلقت علي سعد زغلول والاقباط معه في حزبه أنهم "جماعة متطرفة" في الوطنية وكان ذلك شرفا للوفد وشرفا للاقباط فيه. وهكذا جاء رد الشاب الوطني الثائر صليب بطرس علي دعاوي الفتنة واجهض دعاواهم وافشل مخططاتهم ضد وحدة هذا الشعب الوطنية. هذه مجرد محطات في مشوار حياة د. صليب بطرس قدر ما وعيت وقدر ما اسعفتني الذاكرة.. رحم الله رجلاً من جيل يندر تعويضه..