لا شك في أن الأزمة المالية الأوروبية قد أصبحت اليوم ذات تأثير وأبعاد عالمية تتخطي الحدود الجغرافية لأوروبا.. وسواء تعلق الأمر باقتصادات الدول المتقدمة أو اقتصادات الدول الناشئة فإن هذه الأزمة أخذت تشكّل مصدر قلق حول مصير الاقتصاد العالمي ومستقبله. وفي اعتقادنا إن الاقتصادات العربية تأتي في مقدمة اقتصادات العالم المتأثرة بهذه الأزمة. وقبل التطرق إلي انعكاسات الأزمة المالية الأوروبية علي الاقتصادات العربية فقد يكون من الأهمية بمكان الإشارة إلي طبيعة وإشكاليات هذه الأزمة حتي تتضح الصورة عند تناول أبعادها وتداعياتها علي الاقتصادات العربية. وحسبما يبدو فإن الأزمة المالية الأوروبية هي أكثر تعقيداً من مجرد عجز في الموازنات أو ارتفاع في المديونية، حيث إن هذه الاختلالات المالية ما هي في اعتقادنا إلا نتائج للأزمة وليست بالضرورة المسببات.. لذلك فمن الضروري بمكان التمعن حول الأسباب الرئيسية التي أدّت إلي مثل هذه الاختلالات.. هناك بالطبع أولاً الأسباب التي ترجع إلي اختلاف الثقافة والسلوك الاجتماعي والنماذج الاقتصادية والاجتماعية التي تتبعها دول المجموعة الأوروبية.. ومثل هذه الأسباب لها تأثيرات مباشرة علي الانتاجية وانضباط السياسات المالية. إن صعوبة تأقلم اليونان مع المعايير المطلوبة للاندماج في المجموعة الأوروبية يمثّل أحد أهم هذه المظاهر التي تعبّر عن اختلاف ثقافات العمل ومستوي الانتاجية مقارنة ببعض دول المجموعة الأخري.. هذا ينطبق بدرجات متفاوتة علي الوضع في أسبانيا وإيطاليا والبرتغال وأيرلندا.. ونظراً لكون هذه الاشكاليات تتعدي مسألة عجز الموازنة أو مستوي المديونية فإن المساعدات المالية التي قدمتها المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي لا تبدو كافية للوصول إلي حلول نهائية شافية لهذه الأزمة، الأمر الذي أصبح يثير التساؤل حول مدي استمرار تكتل المجموعة الأوروبية والاتحاد النقدي الأوروبي وفقاً للترتيبات والممارسات الحالية، ممّا انعكس بشكل سلبي علي اليورو - العملة الأوروبية الموحدة - التي فقدت الكثير من قيمتها خاصة في الفترة القليلة الماضية.. كذلك فإن الخيارات المتداولة بين اتباع سياسات تقشفية أو تنشيط النمو لحل الاختلالات المالية لا يبدو أنها تحظي بالاتفاق أو الاجماع، كما أن كلا منهما يبدو متناقضا مع الآخر، هذا عدا كون أي من هذه الخيارات لا يتصدي لجذور الأزمة المتمثلة في اختلاف ثقافة العمل وتباين مستويات الانتاجية وعدم انسجام النماذج الاقتصادية والاجتماعية المتبعة. الأزمة إذاً، ووفق ما يبدو، لاتزال من دون حل، وأن احتمال تفاقمها في المدي المنظور غير مستبعد تماماً، وسواء تعلق الأمر باليونان، التي لا تبدو حتي الآن في وضع يسمح لها باتباع سياسة التقشف المطلوبة، أو تعلق الأمر بوضع أسبانيا، التي يبدو بأن وضع القطاع المصرفي لديها ليس في أحسن حال، هذا إذا لم يتفجر في أي لحظة. وإيطاليا كذلك علي الرغم من جهود حكومة مونتي لترشيد الانفاق وتقليص المديونية إلا أنها مع ذلك تحتاج إلي تحقيق مستويات أفضل من النمو الاقتصادي لزيادة الإيرادات وخفض الدين العام بشكل ملموس.. بالنسبة إلي فرنسا فإن الرئيس الجديد المنتخب السيد فرنسوا هولاند علي الرغم من الحماس الكبير الذي أبداه تجاه ضرورة التركيز علي تنشيط النمو إلا أن مثل هذه المهمة قد تشكل تحدياً كبيراً للاقتصاد الفرنسي الذي يعاني أصلاً من اختلالات مالية من شأنها أن تحد من القدرة علي زيادة الانفاق التي تتطلبها أي محاولة لتنشيط النمو وتحفيزه. إذاً وبعد أن تطرقنا بإيجاز إلي طبيعة الأزمة المالية الأوروبية، نحتاج الآن إلي التعرف علي نوع التأثير وطبيعة الانعكاسات التي تمثلها مثل هذه الأزمة بالنسبة للاقتصادات العربية. أولاً، وفي بداية التطرق إلي هذا الموضوع لا بد أن نشير إلي أن أوروبا تمثل الشريك التجاري الأول لمجموعة الدول العربية، أي أن تجارة الدول العربية مع أوروبا تمثل النسبة الأكبر من التجارة العربية الخارجية. وبالتالي، فإن ضعف الاقتصادات الأوروبية وانكماش الطلب فيها من شأنه أن ينعكس سلباً علي الاقتصادات العربية. هذا ينسحب علي طلب أوروبا من بترول المنطقة العربية الأمر الذي يتضح حالياً في شكل انخفاض أسعار النفط الذي يمثل المصدر الرئيسي لدخل كثير من الدول العربية. لا ننسي كذلك أن الدول العربية في شمال أفريقيا تعتمد علي الأسواق الأوروبية في تصريف 60 - 80% من صادراتها.