أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية أهمية تكامل الدور التنموي للدولة مع القطاعين العام والخاص، ومع القطاع المصرفي في علاج آثار الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد ترتب علي ذلك التحول عن المفهوم الشائع للاقتصاد الحر إلي تدخل حكومات الدول المتقدمة لحماية اقتصادياتها من الانهيار، ولمواجهة مشاكل مديونات البنوك التي تعرضت للإفلاس، ومشاكل تزايد البطالة، وانحسار صادراتها للعالم الخارجي. ومن المؤسف أن بعض القيادات تعتبر أن الاقتصاد الحر يعني الانطلاق دون ضوابط -بالمخالفة لأحكام الدستور المتقدمة- ومن ناحية أخري فإن الدولة إذا لم تتدخل في التوقيت المناسب لحماية الإنتاج الوطني حرصاً علي كفاءته التنافسية بتحليل أسباب التفاوت عن الإنتاج المستورد -في التكلفة وفي الجودة - وتبعاً لعلاج أسباب هذا التفاوت - فإن ذلك سوف ينعكس علي تزايد الطاقات الإنتاجية العاطلة - وتبعا لذلك علي ارتفاع معدلات البطالة. ومن ناحية أخري فإن فتح باب الاستثمار الأجنبي علي مصراعيه للشركات الأجنبية المنافسة للإنتاج المحلي، دون الاكتفاء بما أسفرت عنه اتفاقيات الجات من فتح الأبواب أمام الواردات الأجنبية - فضلا عن أن معايير الجودة لم تطبق علي هذه الواردات - مما يؤدي إلي إغراق السوق المحلي بسلع لا تتوافر فيها معايير الجودة، وتنعكس آثارها السلبية علي المستهلكين، ومن ثم علي الاقتصاد القومي أما الاستثمار الأجنبي في سوق المال فهدفه الأساسي جني الأرباح لصالح العالم الخارجي وليس تحقيق التنمية الاقتصادية العينية للاقتصاد القومي. وتقتضي المصلحة القومية أساسا ما يأتي: (1) تطبيق قواعد الحوكمة ليس فقط علي مستوي القطاع المصرفي- بل امتدادها أيضا إلي الهيئات والشركات العامة والخاصة، وذلك في ضوء ما ثبت منذ سنوات طويلة في الفكر الدولي من أن إخلاص العنصر الشخصي لا يتوافر أساساً إلا في المنشآت الفردية أو في شركات التضامن، أما في الشركات العامة أو الخاصة فيرتبط نجاحها بسلامة اختيار قياداتها ثقافة وخبرة وخلقاً وسلوكا، ويلاحظ أن بعض الاقتصاديين الأمريكيين يشبهون الشركة المساهمة بفريق كرة القدم الذي يتوقف نجاحه علي مقومات قيادته. (2) أن يراعي في اختصاصات الجمعيات العمومية للشركات انتخاب مجلسين أحدهما للإدارة، والآخر للرقابة علي تحقيق النتائج والأهداف. (3) أن يراعي في تعديل قانون مهنة المحاسبة والمراجعة حماية دور مراقبي الحسابات في مواجهة ضغوط رؤساء الشركات وأعضائها المنتدبين، وذلك بمنح مراقبي الحسابات الحق في دعوة الجمعية العمومية للشركة للمساءلة عن الانحراف في تحقيق النتائج المستهدفة. وذلك يتطلب ألا يقتصر دورهم علي جانب المحاسبة المالية فقط، بل أن يمتد إلي مجال المحاسبة الإدارية ومحاسبة التكاليف، ومحاسبة الأداء، وتنمية الثروة القومية - فيما يخص الشركات محل المراجعة- وذلك علاجاً لما يذهب إليه بعض مراقبي الحسابات من حساب مخصصات الإهلاك - علي أساس القيمة التاريخية وليس القيمة الاستبدالية للأصول محل الإهلاك بما لا يتفق واقتصاد يعاني من التضخم وبما يخالف المفهوم الاقتصادي للربح بأنه الزيادة في القيمة الحقيقية للثروة وليس في القيمة التاريخية. (4) لوحظ في الأيام الأخيرة تركيز بعض البنوك في دعايتها علي كروت الائتمان -دون أن تأخذ بعين الاعتبار الآثار السلبية لذلك علي معدلات الاستهلاك العائلي وعلي معدلات الادخار لمواجهة أعباء السداد، ودون مراعاة الهبوط الملحوظ في معدل تغطية الصادرات المصرية للواردات، وأيضا دون مراعاة أثر استخدام هذه الكروت علي الإخلال بميزان المدفوعات بالنسبة للمعاملات الدولية، وجميعها أمور تستلزم قيام الحكومة مع البنك المركزي بمراجعة سياسات هذه البنوك آخذين في الاعتبار الآثار السلبية التي أسفرت عن إفلاس أكثر من مائة بنك بالولايات المتحدة في حالة عجز المقترضين عن الوفاء بأعباء قروضهم. وكذلك أهمية إدراك البنوك - ومسئوليها علي المستوي القومي - لدورهم كأمناء استثمار فيما بين المودعين وبين المنظمين في قطاع الأعمال. (5) وعلي الجانب لاآخر فثمة توجه تنموي في بعض البنوك المتميزة بالرشد بالنسبة للتوجه في تمويلها إلي مجالات الطاقة الكهربائية والطاقة البديلة، ومشروعات الإسكان المناسبة لأصحاب الدخول المحدودة، ومشروعات البنية الأساسية اللازمة لحل اختناقات التنمية - وهي توجهات تتطلب تشجيعا من البنك المركزي ومن الحكومة. (6) وإذا اعتبرنا أن البنوك في الاقتصاد المعاصر تقوم بدور أمناء الاستثمار المسئولين عن التحقق من قدرة عملائهم علي الوفاء بالتزاماتهم المترتبة عليهم بعد فترة التأسيس التي يجري خلالها توريد المعدات وتركيبها "ولا يتيسر خلالها الزام المقترضين بأعباء تمويلية" انتظارا لبدء الإنتاج والتوجه لنقطة التعادل - وخلال هذه الفترة يمكن تحميل نتائج الأعمال بأعباء التمويل المصرفي المرتبط بالإنتاج من فوائد القروض أو عوائدها المدينة، وبعد بلوغ نقطة التعادل يقتضي الأمر التحقق من امكانية سداد أقساط القروض في مواعيدها، وإذا أخذنا في الاعتبار أن نجاح البنك يرتبط بمراكز عملائه، لاتضح بصورة بديهية أن الأمر يتطلب التزام البنوك بالتحقق من سلامة دراسات الجدوي الفنية والاقتصادية ومعدلات الربحية المتوقعة وأيضا سلامة سياسة التدفقات النقدية المتوقعة بما يكفل للبنوك "ولعملائها" النجاح في دورها التنموي. ويلاحظ في هذا الخصوص أهمية المتابعة المستمرة الفعالة لمواجهة أية انحرافات في التنفيذ وتبني أسباب علاجها أولا بأول وقبل الوصول لنقطة اللاعودة ومن ناحية أخري يقتضي الأمر تعميق مسئولية قيادات البنوك عن مراكزها المالية والتي ترتبط بملاءة المراكز المالية لعملائها، مما يتطلب منها استمرار متابعة الرشد في استخدام هؤلاء العملاء لما تنتجه لهم من تمويل حتي تمام سدادهم لقروضها. وآمل ألا يترتب علي النقد البناء في هذا المقال آثار سلبية - فالهدف هو تحقيق المصلحة القومية ومواجهة الخلل الكبير في الميزان التجاري وانعكاسه السلبي علي ميزان المدفوعات - علي النحو الموضح فيما تقدم - وهو موقف يقتضي توجيه جميع الجهود لعلاج أسبابه - هذا بالنسبة لدور الدولة والقطاع المصرفي وقطاع الأعمال في معالجة أسباب وردود فعل الأزمة الاقتصادية العالمية.