إذا أردت أن تعرف قيمة إنسان لم يتح لك الاطلاع مباشرة علي ما قدمه لمجتمعه وناسه.. فاسأل عن قيمته أصدقاءه والعارفين بقدره.. والذين حضروا عزاء زميلنا الكبير محمد صالح كان بوسعهم أن يعرفوا بوضوح فداحة خسارة حياتنا الثقافية والصحفية في هذا الرجل الهادئ المتواضع، الذي لم يأخذ حقه من الشهرة والتقدير بين العامة، لأنه كان ينفر من الزحام والصخب، وكان يحب أن يعمل ويبدع في هدوء أقرب إلي عزلة المتصوفين، ولم يكن يسعي إلي الأضواء والعلاقات العامة. وحين نعي الناعي محمد صالح كان حزني عليه مضاعفا متعدد الأوجه.. مرة لأنه رحل عن عالمنا وانقطع عطاؤه الخصب في الشعر والصحافة، ومرة ثانية لأن المرض اللعين لم يمهله حتي ليشهد صدور ديوانه الأخير أو ليودع أصدقاءه ويودعونه.. فقد اغتاله سرطان الغدد الليمفاوية خلال أشهر قليلة، ومرة ثالثة لأنني شخصيا لم استطع زيارته قبل رحيله، فلم أكد أعرف بحقيقة مرضه حتي فاجأني خبر وفاته، ومرة رابعة لأنه رحل يوم العيد والناس متفرقون في إجازاتهم وأسفارهم، وأقامت أسرته العزاء ثاني أيام رحيله.. وكان بعض أصدقائه وأنا منهم يخشون ألا يكون أغلب أصدقائه قد عرفوا بخبر رحيله.. وألا يكون العزاء لائقا به. لكن قاعة العزاء في محمد صالح كانت حافلة بالعشرات والعشرات من رموز الحياة الثقافية والصحافة المصرية.. من الرسميين إلي المستقلين والمعارضين.. من كبار رجال وزارة الثقافة إلي كبار الكتاب والشعراء.. ومن صحفيين مرموقين في صحف قومية إلي كتاب ورؤساء تحرير من صحف ومجلات مستقلة ومعارضة.. ومن اليمين إلي اليسار.. رجال يختلفون علي كل شيء تقريبا.. لكنهم يتفقون علي احترام قيمة الإبداع، والمهنية الرفيعة، والثقافة العميقة متعددة الأبعاد، والمساهمة في إثراء وجدان المصريين، والعمل الجاد والأخلاق المحترمة.. وكل ما كان يمثله ويقدمه محمد صالح الشاعر والصحفي الكبير. انخرط محمد صالح في الحركة الثقافية منذ جاء من قريته في ريف المحلة إلي القاهرة في ستينيات القرن العشرين.. وجمع بين العمل من أجل لقمة العيش والدراسة في قسم الفلسفة بآداب عين شمس، والقراءة النهمة في الأدب والفلسفة ومختلف مجالات المعرفة الإنسانية.. وبني نفسه كمثقف جاد ومبدع متميز ضمن جيل الستينيات الذي تحمس لأهداف وآمال الاستقلال الوطني والتنمية والتقدم الاجتماعي والعدل، وأيضا الديمقراطية.. بحكم تمرد المثقفين الدائم ونظرتهم النقدية التي ترفض القوالب الحديدية للسلطة الحاكمة في كل عصر.. ذلك الجيل الذي كان قدره أن يستفيق من أحلامه علي كارثة هزيمة يونيو ،1967 فانطلق حاملا إحباطه وانكساراته ليبحث عن سبل جديدة لتحقيق استقلال الوطن وحريته، ومحو عار الهزيمة، ومواصلة بناء مصر.. وحاملا في الوقت نفسه هموم وآمال أبنائه كذوات فردية تبحث عن التحقق ومواصلة الإبداع.. وأيضا عن الحب وبناء أسرة وإنجاب أطفال.. وتوفير لقمة عيش ومسكن لائق وتعليم وحياة كريمة لهم. كثيرون من أبناء ذلك الجيل فشلوا في التوفيق بين الحملين الثقيلين، وآلت حياتهم إلي مصائر درامية شديدة التباين.. فمنهم من صادر الإبداع والعمل العام حياته الخاصة.. ومنهم من ابتلعت هموم لقمة العيش وبناء الأسرة همه العام وإبداعه، بل ومبادئه!! وخاصة مع التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحادة التي شهدتها مصر في سنوات ما بعد حرب أكتوبر والانفتاح الاقتصادي. وكان محمد صالح واحدا من الذين حافظوا علي التوازن الصعب بين الحملين الثقيلين.. بني أسرة ناجحة.. واختار الصحافة مهنة له.. وحمله البحث عن لقمة العيش إلي الخليج.. لكنه ظل يحمل الشعر والهم العام بين جوانحه وعاد ليجمع قصائده المتفرقة التي نشرتها المجلات الثقافية وعرفتها المنتديات الشعرية في الستينيات والسبعينيات.. ويضيف إليها قصائده الجديدة.. وبعد طول انتظار نشر علي نفقته الخاصة أول دواوينه "الوطن الجمر" عام 1984.. وهو في الثانية والأربعين من عمره.. ثم "خط الزوال" 1992.. ثم "صيد الفراشات" عام 1996.. ثم "حياة عادية" عام 2000.. ثم "مثل غربان سود" الذي نشرته جريدة "أخبار الأدب" هذا العام، وتجري طباعته في كتاب هذه الأيام.. وتحت الطبع أيضا ديوانه الأخير "لا شيء يدل".. ليحفر بهذه الدواوين اسمه بين أسماء كبار شعرائنا المبدعين.. وليصبح كما يقول الناقد والشاعر اللامع ابراهيم داود "شيخ طريقة في الكتابة".. و"صاحب مشروع مكتمل في الشعر العربي الجديد".. شعر يتميز بروحه الشفافة وإنسانيته العميقة، وبحثه المضفي عن الجمال والصدق ومعني الحياة.. مفعم بهموم الإنسان والوطن ولكن بلا ضجيج ولا كلمات صاخبة.. وبحزن شفيف نبيل علي انكسارات أحلام البشر ومصائرهم ولكن بلا كلمات زاعقة ولا ميلودراما. الصحفي الكبير وبرغم أن المألوف هو أن روح الشاعر الرقيقة المتمردة لا تنسجم كثيرا مع العمل الصحفي وما يفرضه من انشغال بالتفاصيل وغوص فيها، وانتظام وانضباط تفرضهما مواعيد الطباعة وإعداد الصفحات.. ومعالجة لموضوعات كثيرا ما يشوبها الضعف والركاكة كي تخرج في صورة صالحة للنشر.. فإن محمد صالح كان لديه قدر هائل من الموهبة والدأب والصبر الضروري للقيام بكل ذلك ببراعة نادرة وسرعة كبيرة وهدوء وانضباط شديدين.. حتي أصبح واحداً من ألمع رجال "المطبخ الصحفي" أو ما يسميه الصحفيون "بالديسك" في الصحافة المصرية. علي أنه كان يسخر بطريقته الهادئة المهذبة من التناقض بين وضعه كشاعر كبير واضطراره لمعالجة كتابات انصاف الموهوبين وعديمي الموهبة لكي تصبح صالحة للنشر، بقوله مازحاً: "ربنا يتوب علينا من خدمة البيوت".. في تشبيه بليغ ساخر لهذا النوع من العمل الصحفي الشاق بغسيل الأوانئ ومسح الأرضيات!! والواقع أنه تشبيه يشعر ببلاغته كل من يمارس عمل "الديسك" أو "المطبخ الصحفي".. ومحمد صالح هو أول من صك هذا التعبير اللاذع الذي يدعي الكثيرون نسبته لأنفسهم.. والذي أصبح واسع الانتشار بين رجال "الديسك" خاصة كلما انتهي الواحد منهم من التعامل مع قطعة من ذلك النوع الضعيف السمج الذي ينتجه ضعاف أو عديمو الموهبة من المفروضين علي الوسط الصحفي لأسباب كثيرة. وبهذه الموهبة الكبيرة، وبهذه الروح الساخرة التي لا تجرح، كان محمد صالح واحدا من كبار مؤسسي مجلة "كل الناس" ثم جريدتنا "العالم اليوم".. وبمحبته للناس وتهذيبه ولطفه وكل صفاته الإنسانية والأخلاقية والمهنية الرفيعة استحق محمد صالح حب وتقدير كل زملائه وتلاميذه الذين عملوا معه في مؤسستنا طوال العشرين عاما الأخيرة من حياته، وحب الجميع وتقديرهم في كل مكان عمل فيه. وبإبداعه الشعري الرفيع وروحه النبيلة سيتذكره دائما زملاؤه وأبناء جيله من المبدعين والمثقفين الكبار.. وستتذكره حياتنا الثقافية التي شارك في بنائها علي مدي عشرات السنين وصنع لنفسه مكانة مميزة فيها. رحم الله زميلنا الكبير.. وعزاء لنجليه الزميلين العزيزين عبد الحكيم وأحمد.. ولأسرته وأصدقائه وزملائه وقرائه.