لم يكن الحماس الذي دفعني لمشاهدة فيلم دكان شحاتة، هو نفسه الذي خرجت به بعد نحو الساعتين. كانت الأفكار المسبقة التي تسلحت بها من خلال ما كتب في الصحف، وما قيل في وسائل الإعلام، وحتي ما ذكره عدد من الأصدقاء الذين سبقوني في المشاهدة جميعها غير مشجع. ولكني أعترف أن الدافع الرئيسي والمحرض يعود للشاعر جمال بخيت عندما رأيته في البيت بيتك مع فريق عمل الفيلم، حيث كانت تجربته الشعرية في "دكان شحاتة" كفيلة بأن أنهض من فراشي بينما كنت أستعد للنوم، وارتدي ملابسي وأتوجه مع زوجي في "مهمة عاجلة" إلي السينما! ولم يخيب خالد يوسف والرائعون محمود حميدة وعمرو عبد الجليل وعمرو سعد وبقية طاقم العمل ظني، ومن قبلي ظن المحرض الجميل جمال بخيت، بل شعرت بدرجة كبيرة من الاستمتاع لا تضاهيها إلا حالة الحزن، ونوبات البكاء التي انتابتني، ولم أكن استثناء علي ما أعتقد طيلة عرض الفيلم، بل اكتشفت ذلك في العيون المتورمة بعد انتهاء العرض. لماذا الحزن؟ لأن "دكان شحاتة" قدم المواطن المصري عام 2009 والأمراض التي أصابته ونخرت في عظامه وضميره ووصلت مؤشرات التخلي عن كل قيم المجتمع، إلي حد زج الأخوة بشقيقهم شحاتة في السجن، والاستيلاء علي نصيبه في الإرث، ثم زواج الأخ "سالم" من "بيسة" خطيبة شقيقه شحاتة.. واغتصابها يوميا علي فراش الزوجية. ومستويات الرمز في الفيلم ليست عويصة علي الفهم.. فالدكان، هو مصر العشوائية، الذي يمارس داخله كل أنواع الفساد والموبقات من سرقة، وتعاطي مخدرات، وارتكاب الفاحشة والبلطجة والضرب والإرهاب وغيرها من الأمراض الخطيرة التي شخصها الفيلم وأظهر بداية استفحالها مع ما يسمي بعصر الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات.. وجاء نتيجة ذلك تفكك الضمير الجمعي المصري والعبارة استعيرها من الدكتورة هدي زكريا أستاذة علم الاجتماع المعروفة ومن هول ذلك التفكك أن الشرخ الاجتماعي أصبح جبّاً عميقاً، وصوّره خالد يوسف باحتراف في مشهد الحائط المشروخ الذي لم تفلح صورة الزعيم جمال عبد الناصر في مداراته. كما جاءت شهادة غريم الثورة الدكتور الذي سجن في عهدها بسبب أفكاره "مثّل الدور عبد العزيز مخيون" لتنصف الثورة وتعيد اعتبارها بعد أن كثرت السيوف بل والمطاوي التي تنهشها هذه الأيام.. ويقول "مخيون" إنه كان غاضبا وناقما علي الثورة عندما كان قابعاً في السجن، لكنه بعدما خرج ورأي "الأهوال" الحادثة في المجتمع من جراء الانفتاح "سامحها" وتصالح معها. وإذا كانت رسالة فيلم "دكان شحاتة" لم تختلف كثيراً عن رسالة فيلم "حين ميسرة" لنفس فريق العمل تقريبا.. إلا أنها جاءت هذه المرة "ناعمة" بالمعاني الإنسانية، التي تتسرب إلي تحت الجلد، وتدخل إلي القلوب والعقول. وربما قصة العائلة الصعيدية، التي من المفترض أن تكون الأكثر تمسكا بالمبادئ، بين فئات المجتمع، والتي أصابها ما أصاب بقية الشرائح من أمراض الأنانية والفساد، كان لها الدور الكبير في ذلك التأثير "الناعم" علي الرسالة الفنية للفيلم. وقصدت برقة الرسالة تلك الأحاسيس الحقيقية الطاغية وغير المفتعلة التي يموج بها الفيلم. ودكان شحاتة الذي زف إلينا ممثلة جديدة هي هيفاء وهبي، اقنعتني كممثلة في تجربة أولي، أكثر منها كمطربة.. يرسخ أقدام "أبطال" سينمائيين لهم قامات وهامات عالية مثل عمرو سعد، وعمرو عبد الجليل.. وأتوقع لعمرو سعد، الذي يبدو أنه انزعج من تشبيه البعض له بالنجم العبقري الراحل أحمد زكي، بأن يتجاوز النجم الأسمر، ليس بموهبته المتشابهة معه فقط، ولكن بمشروعه الفكري ونظرته المتكاملة للعمل السينمائي. ولعل فيلم دكان شحاتة نموذجا للمشروع المتكامل بحق لسينما الإنسان المصري في 2009. أما الرائع جمال بخيت وله الفضل في استمتاعي بالفيلم، فإنه ببساطة قد تفوق علي نفسه فهو بلاشك كان شاعرا موهوبا، ولايزال، لكن إنتاجه في دكان شحاتة تجربة مختلفة، أظهرت ذلك "السوهاجي" الذي يقطر "شعرية"، واستدعي كل الموروث الثقافي والاجتماعي لأهل الصعيد المترسخ في مخيلته ليتحفنا بقصائد بالغة المعاني، وميزتها الرئيسية أنها أضافت ولأول مرة بهذا القدر، إلي سينما خالد يوسف. وإذ أدرك أن المرور علي مقاطع الفيلم بهذه السرعة لا يقدم رؤية نقدية متكاملة لكن أردتها تحية حب.. وشكر لمجموعة أدخلت علي البهجة والاكتئاب معا.. البهجة لأنها سينما تحمل "مشروعا" فكريا وفنيا واعداً بالمزيد، والاكتئاب لأن البلد بهذه الحالة المستعصية أو علي طريقة جمال بخيت "قلعت آخر هدمة" كانت تسترها. * كلمة أخيرة: "إقتباس" بعض أحداث قصة سيدنا يوسف في دكان شحاته أثرت الفيلم.. وقد عاش الراحل يوسف شاهين شغوفاً بهذه القصة، ونفذها في "المهاجر".. لكن خالد تلميذ شاهين تفوق علي أستاذه. "التسقيع" و"التقنين" استغاثات كثيرة ظهرت في الصحف مؤخرا حول الأراضي في طريق الإسكندرية والإسماعيلية الصحراوي، والتي باعتها وزارة الزراعة في عهود سابقة إلي الجمعيات الزراعية بقصد الاستصلاح، وقامت هذه الجمعيات بتسقيعها، وعرضها للاستثمار وبعد أن باعت الوزارة الفدان بنحو 50 جنيهاً، لكبار المسئولين ورجال الأعمال، باعوه بدورهم بأكثر من 2000 جنيه بعد "التسقيع"!! والرهان من هؤلاء علي أن "اللي يتكسر يتصلح"... فالقانون داسوا عليه، وها هم يريدون أن يقننوا أوضاعهم، ويدفعوا نحو مائة ألف جنيه من أجل التصالح.. إنها لعبة فساد نبهتُ إليها أكثر من مرة في هذه الزواية.. وقد ضلع المسئولون في هذه اللعبة القذرة، ووضعوا الحكومة أمام الأمر الواقع، وقالوا بالبلدي "طز" في كل الآثار المترتبة علي ذلك وأولها الإستنزاف للمياه الجوفية في تلك المناطق لصالح القري والمنتجعات التي أقيمت في الصحراء، وتغيير النشاط بدلاً من الاستصلاح والزراعة ليأكل "الغلابة" إلي الاستثمار السياحي ليسكن "الأغنياء". هل بعد ذلك نتساءل عن فشلنا في تحقيق الإكتفاء الغذائي وعن فاتورة استيراد القمح والذرة الباهظة، ثم هل يصحّ أن نتساءل عن كرة النار التي تلتهب بين الطبقات يوماً بعد يوم لتحرق المجتمع كله؟!