بدأت الأمطار ترخ علي نسق هادئ مع أولي خطوات لنا حطت في مطار الدوحة ..كانت الطائرة تقل وفد الجامعة العربية برئاسة عمرو موسي والعديد من الزملاء الصحفيين والمراسلين التليفزيونيين، ..وعشرات الأطنان من القرارات السابقة ومشاريع القرارات اللاحقة التي أّّنّ العرب بها علي امتداد عشرين من القمم العربية السابقة كما أنت بحملها الطائرات . القطريون المضيفون الذين كانوافي انتظارنا ترتسم علي محياهم البسمة والانشراح، وبدأ وقع المطر يسرع ويقوي والقطريون يزدادون ابتهاجا ..انهم يتبادلون التهاني بنزول المطر التي يتباركون بها علي ندرتها ويسمونها "حيا" ربما نسبة الي الحياة والنماء. هكذا ارتاحوا إلي أن الله يبارك قمتهم بهذه الإشارة الطبيعية وبدأوا رحلة الأيام الصعبة في تنظيم القمة بتفاؤل روحاني .وما أحوج العرب كلهم لقطرات المطر لتعالج الأمراض المستعصية والمستحكمة وتداوي نفوس البعض المريضة، وتحيي الارادات الضعيفة واليائسة! لم تخل أغلب الأيام التحضيرية للقمة من رخات المطر التي نظفت الهواء الملئ بالأتربة والأجواء المغيمة بالسحب لكنها لم" تنظف" الأجواء السياسية من التوتر الذي بلغ ذروته باعلان مصر عدم مشاركة الرئيس مبارك في القمة وتعيين الدكتور مفيد شهاب وزير الشئون القانونية والبرلمانية لتمثيل مصر في القمة اليوم .وقد اكتشفت ان الاعلاميين المشاكسين أطلقوا علي الدكتور مفيد وصف "المحلل" مع الاعتذار طبعا للدكتور شهاب، الذي حضر العام الماضي أيضا في دمشق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه إثر الأزمة التي نشبت بين دمشق والقاهرة .. وكان القرار المصري قد لاحت مقدماته عندما تغيب وزير الخارجية أحمد أبو الغيط عن اجتماعات وزراء الخارجية العرب ومن قبله وزيرالتجارة والصناعة المهندس رشيد محمد رشيد، وقد ظهر أثرالقرار علي وجوه كل العرب الرسميين والإعلاميين، بل وعلي وجوه العاملين المصريين في فنادق الدوحة وفي المحلات والسائقين لسيارات الوفود ..كانوا يتمنون ان يأتي الرئيس ، حتي من زاوية ضيقة تمسهم مباشرة، فمخاوفهم غير خافية بل وتتضخم يوما بعد آخر وساعة بعد أخري، من تأثير التمثيل المنخفض لمصر في القمة علي استمرار أعمالهم وعقودهم، وعلي حسن التعامل معهم من طرف مشغليهم القطريين، وعلي استقرار حياتهم بالكامل. كانت تلك مجرد أماني مواطنين عاديين قد لا يفهمون او لا يعترفون بالأجندات السياسية التي أصبحت تصحب كل قمة جديدة. والمراقبون لملفات تلك الأجندات والخلافات يلاحظون الورقة الإيرانية الحاضرة بقوة ولولا إصرار السعودية ومصر وعدد آخرمن الدول لكان الرئيس الايراني أحمدي نجاد اول المشاركين في القمة ،وربما يحظي بفرصة لايحظي بها الكثير من الرؤساء العرب المشاركين في توجيه خطاب ، في الامة العربية ولربما أعطي دروسا للقادة العرب في السياسة، وفي أولويات المصالح والمقاومة ورفض التطبيع والسلام مع العدو الإسرائيلي .لكن نجحت الضغوط العربية علي قطر ولم توجه الدعوة للرئيس الإيراني . ..غير أن المرارة من جراء هذا بقيت في حلوق من تفاوضوا و"تخانقوا" من أجل تمرير موقفهم الرافض للحضور الإيراني. أيضا هناك مرارة بقيت في النفوس المصرية بعد إصرار قطر علي عقد مؤتمر دولي لصالح غزة في نفس الوقت الذي دعت فيه مصر لعقد مؤتمر مماثل . ولا يخفي علي أي مراقب ما تلعبه قناة الجزيرة التي تتخذ من قطر موقعا ومن الدعم الرسمي قوة وصوتاعاليا، في إشعال الخلافات .وهناك سؤال بسيط يطرحه أي مسئول مصري ، بل وحتي مواطن عادي، هل يمكن ان "يشتم" برنامج مصري نجل أمير قطر قبل عقد قمة عربية في مصر، ثم يقبل سمو الأمير بعد ذلك أن يشارك في هذه القمة؟ من شاهد برنامجا علي قناة الجزيرة قبل عدة أيام من عقد قمة الدوحة، وكيف تناول شخص جمال مبارك. يستطيع الإجابة عن هذا السؤال! أيضا لايمكن إغفال دور قناة الجزيرة في الهجوم علي مصر إبان العدوان الإسرائيلي علي غزة.. وهذا كان يحدث طوال السنوات الماضية علي فترات وبشكل مستمر. لكن الجرعة كانت مكثفة مؤخرا. والتبرير القطري الرسمي بضرورة الفصل بين مواقف قناة الجزيرة ومواقف دولة قطر. وتدعو الدبلوماسية القطرية أن ترتقي ثقافة الحوار بين العرب إلي تقبل هذه الظاهرة ..وهذا منطق جميل وراق جدا ..لكن السؤال الذي يظل محيرا وبدون إجابة في هذه الحالة هو: لماذا إذن لانستمع الي أي انتقادات من الجزيرة في برامجها الي مواقف وسياسات قطرية؟ هل القيادة القطرية تنتمي إلي "الملائكة" دائما ..بينما بقية القادة العرب من الشياطين؟؟ إن تسخير الجزيرة إلي انتقاد مظاهر سلبية في الوطن العربي دونما قطر يجعل مفهوم الاحتراف الإعلامي ناقصا ومشوبا بعدم الموضوعية، واذا كان العرب "حساسين "للنقد فان قطر ليست مستثناة من ذلك . أن القمة وللأسف أغفلت تحديات خطيرة يتعرض إليها الوطن العربي، ويسهب في وصفها كل المسئولين العرب في خطبهم ،لكن ما أبعد الأقوال عن الأفعال، وما يطالب به رئيس الوزراء والخارجية القطري الشيخ حمد في تصريحاته خلال القمة من ضرورة اقتران الأقوال بالأفعال، لابد ان يتحول الي حقيقة وواقع. فالقمة لم تتطرق مثلا إلي العدوان "غير معلوم المصدر" علي قوافل سودانية بالقرب من الحدود المصرية بينما شغلتها في المقابل الخلافات العربية والبحث عن تفاصيل ذلك.كما لم تتصد القمة أيضا لتوجيه رسالة واضحة إلي اسرائيل التي تحوم حولها الشكوك الكبيرة حول قصفها لتلك القوافل ،كما لم توجه رسالة الي أمريكا ومجموعة العشرين التي ستجتمع الخميس في لندن بل ان خطبنا وحديثنا للاستهلاك المحلي . العرب يكلمون أنفسهم ولا يملكون أي فعل حقيقي لحل مشاكلهم التي تُستنسخ، في مناسبات القمة، منذ حوالي 60 عاما في عمر هذه الأمة، والتصدي للدفاع والحفاظ علي سيادتهم من أي عدوان خارجي .بل إن القمة وكل القمم تجيد وتدمن إنشاء اللجان تلو اللجان حتي ننساها وننسي أهدافها. وعندما تقترب مواسم القمم، ومن أجل إصدار البيان الختامي مسايرة للدولة المضيفة، ينكب المسئولون علي توجيه زوايا المواقف لتنتهي الاجتماعات بصياغة عامة لا تقدم شيئا في دفع وحلحلة المشاكل ولا تزيل الصراعات والتشابكات بين المواقف المختلفة. لنعود من جديد للبحث عن المصالحة العربية وحل المشكلات المستفحلة .وهنا يظهرعلي الفور النفوذ الأجنبي والتدخل الخارجي بدافع قطري ضيق من هذه الدولة أو تلك لتغيير ميزان القوي الداخلي، وبشكل يعجل بفشل تلك الآليات الداخلية التي تنشأ لحل النزاعات .وبالطبع يتم التخلي عن تلك الآليات واللجان القانونية في خضم ذلك الصراع ويجري الكل ويلهثون لمد اليد الي الاطراف الخارجية للاستقواء في تلك التوازنات المختلة. أما الجامعة العربية فحالها انعكاس لحال الأعضاء فيها ومصالحهم الضيقة .وقد أصبح الأمين العام السيد عمرو موسي الذي كان مثالا للدبلوماسية العربية النشطة والحازمة عندما كان وزيرا لخارجية مصر، حاله من حال المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة .تعب الرجل من العقول الصغيرة ولم يستطع كفرد مفرد ان ينفخ من روحه وعزمه وقدرته ليحيل الضعف العربي الي صلابة .وكلما تحكم به اليأس وذاق مرارة التشرذم ولعنات السخط عليه وهو ماهو من تفهم ووعقلية جهبذية شعر أن الوقت حان للانسحاب والاستقالة .ولوح بها مرات ،ثم يتراجع مع نفحات أمل قد تكون مستمدة من الشارع العربي الذي يحييه ويغني لخصاله، أكثر مما هي مستمدة من قيادات دول لا فرق لديها بين موسي أو"عيسي". والقمة العربية التي تنعقد اليوم في قطر تحت شعارات زينت لافتاتها أشعار أبي الطيب المتنبي، لا تعكس غالبا الا الفخر "الشوفيني" بالعروبة والذي تغني به المتنبي .فلا الخيل، ولا الليل، ولا البيداء والصحراء، أصبحت تتعرف علي هذا العربي شبه الميت ،ولاالعرب اصبحوا شيئا في ميزان القوي العالمي .اننا مازلنا قبائل متناثرة تغير علي بعضها البعض ،مع أي غضب أو مزاج متعكر لرئيس القبيلة . إننا مازلنا عرب الجاهلية ..فبأي حال عدتِ يا قمة وأي جديد أتيت به إلي هذه الأمة؟!