بعد مشاهدة ملامح العبث الامريكي بالاقتصاد العالمي ومتابعة تصريحات التنبؤ بإفلاس أكبر اقتصاد كوني ثم متابعة أحوال عجيبة وغريبة عن نوعيات الجرائم الحادثة في بر مصر المحروسة، بعد كل ذلك أطل وجه جمال الغيطاني هذا الذي بدأ حياته الأدبية بمذكرات شاب عاش ألف عام وحين أري الغيطاني فأنا ألمح فيه طيبة وصلابة وذكاء من يريد استيعاب كل من أمامه وما أمامه من خبرات. كان جمال الغيطاني يقدم رحلة مقدسة بكل معايير محاولة فهم الانسان لنفسه وللكون، فقد انعقد بالقاهرة مؤتمر عن الفيلسوف المتصوف محيي الدين بن عربي الاندلسي المنشأ الذي مر بمصر في رحلته الي مكة الي ان مات في دمشق. وحين يتحدث جمال الغيطاني عن ابن عربي فأنا أعلم يقينا كم من الجهد قد بذله جمال في استيعاب "فصوص الحكم" مع "الفتوحات المكية" واعترف اني عندما حاولت قراءة الفتوحات أصابتني زلزلة جعلتني أبحث عن موجز لها وللرجل الذي كتبها ثم أغناني "النفري" عن كل المتصوفين لأن "المواقف والمخاطبات" بما تملكه من طاقة تجعلك تشهد علي نفسك وعلي من حولك تلك المواقف والمخاطبات جعلتني أوجز الصوفية في هذا المجلد الذي أهداه لي أستاذي صلاح عبدالصبور، وصارت علاقتي بالتصوف محدودة ومحصورة ولكن الطمع في أن يوجز لك غيرك خلاصة ما عرفوه، هذا الطمع جعل عيوني مفتوحة وهاربة من بقية قنوات التليفزيون لأركز وجداني علي ما يقوله الغيطاني. وهكذا عرفت من خلال اصراره علي صحبة من زاروا مصر من المستعربين الاسبان والانجليز وبعض من أساتذة الفلسفة الاسلامية كي يقوموا برحلة لزيارة مراقد الأئمة الكبار من الشيوخ وأهل الطريق.. والرحلة الي مقامات الشيوخ - كما شرح الغيطاني - هي أسلوب مهم يتبعه كل متصوف. كان وجدان جمال الغيطاني يرتج بقداسة الايمان وهو يشرح لنا الرحلة وما دار بين ابن عربي وسلطان العاشقين عمر بن الفارض. ثم كان توقفه عند ذو النون المصري، هذا المتصوف الذي عرفته عبر رحلة اعتناق موريس بيجار للاسلام وهو من كبار مصممي الباليه المعاصر.. وحين جاء بيجار الي القاهرة عام 1991 بحث عن مقبرة ذو النون وقام بزيارته، ولا انسي كلمته يومها "الحياة حلم يقظة يتراوح بين الكابوس وبين السفر الي الطمأنينة، وذو النون هو قائدي الي الاطمئان". أكرمني جمال الغيطاني بما قاله واحسست انه يغسل اعماقي ومعي المشاهدون بتلك الرحلة الراقية التي لم اتوقعها في ذلك المساء، لكنها كانت هدية من الشاب جمال الغيطاني الذي عاش باقتدار عميق عشرات الآلاف من الاعوام بجديته الرصينة وعشقه اللامتناهي لكل ما يصون الانسان.