منذ انطلاقة "الاتحاد الاقتصادي والنقدي" الأوروبي، في الأول من يناير الماضي والمصارف الكبري في منطقة اليورو في حالة تخبّط أقل ما يقال فيها، بنظر المراقبين، أن لها الكثير من المبررات. وإذا كان الاندماج هو الخيار الرئيسي الذي تسلكه هذه المصارف حتي الآن، فالملاحظ أن غالبية هذه الاندماجات الحاصلة حتي الآن لا تزال ضمن الحدود الوطنية، وإن كان بعضها يشكل مجرد عملية وسطية للانتقال إلي مستوي الشركة المصرفية الوطنية العملاقة. إنما السؤال التلقائي هنا هو: ماذا يمكن أن يحصل إذا تعرض أحد هذه المصارف الجديدة العملاقة الأوروبية إلي صعوبات؟ الجواب ليس سهلاً.. والمراقبون يلفتون إلي أن المصرف المركزي الأوروبي ليس علي استعداد لأن يدعم أحداً في حال تعرض النظام المصرفي الأوروبي لأية أزمة. إن توحيد السوق الأوروبية والنقد الأوروبي شكلت واحدة من أكبر الصدمات التي لم يعرف القطاع المصرفي الأوروبي مثيلاً لها في تاريخه.. سيما بعد انفصال حركة المال في منطقة اليورو عن رقابة القطاع المصرفي. ومن هنا، فالمراقبون يعتبرون أنه ليس من الصعب، في ظل ظروف كهذه، الاستشعار المسبق بالأسباب التي يمكن أن تولد أزمة. هناك أولاً نمو الديون الذاهبة إلي خارج أوروبا، مصحوبة بتنامي عدد الاندماجات المصرفية عبر الحدود، مما يقوي خطر احتمال إصابة المال الأوروبي بالعدوي الغير أوروبية. وفي الإطار نفسه، هناك بعض الحكومات التي تشجع مصارفها علي التمركز في الخارج وعلي الالتزام المسبق في الوقت نفسه بقوانين اللعبة الخطرة التي تمارسها المصارف التجارية العالمية. وبموازاة ذلك، فإن تكثيف الحمي التنافسية يؤدي إلي تقلص في الأرباح، الأمر الذي لابد منه في تحرير الأسواق، وبذلك تزداد احتمالات الأزمات. إن "وليام وايت" المسئول الاقتصادي في "بنك الحسابات الدولية"، الذي هو بمثابة بنك البنوك المركزية، يتخوّف من حصول ضعف جماعي في المؤسسات المصرفية ومن حصول أزمات مصرفية كارثية. وعلي هذه الخلفية نفسها، يتخوّف صندوق النقد الدولي من تركيز "البنك الأوروبي المركزي" علي السياسة النقدية دون غيرها مع اهتمام محدود وهامشي بالرقابة المصرفية وبالوسائل المفترضة لتقديم دعم منفرد للمصارف التي قد تعاني من مشكلات في السيولة. صندوق النقد الدولي يأخذ علي البنك الأوروبي المركزي بصورة خاصة انعدام وجود أي مصدر مركزي لضخ السيولة اللازمة في الحالات الطارئة. إن هذه الممارسات الأوروبية تشكل، بنظر الصندوق الدولي، انحرافاً فاضحاً عن مسار معاهدة ماسترخت، وتأكيداً للمخاوف الألمانية من أن يؤدي وجود شبكة ضمانات أمنية مالية إلي ممارسات غير مسئولة. في السياق نفسه، يطرح المراقبون تساؤلات صعبة حول أسباب عدم تعميم النموذج الألماني علي باقي أوروبا ففي ألمانيا ما بعد الحرب، كانت أسواق رؤوس الأموال لاتزال في مرحلة قيد النمو.. كان قسم كبير من المصارف مؤمماً وكان القطاع المصرفي برمته خاضعاً لرقابة صارمة وبالغة الدقة.. وبفضل ذلك، كان بإمكان الألمان لاحقاً استيعاب الأزمات المالية بصورة أسرع وأفعل مما لدي الأمريكيين والبريطانيين. إن الثقافة المالية القائمة في أوروبا الآن أصبحت أكثر تحرراً وأكثر قابلية للتبدل وكذلك أكثر استعداداً لنمط تبادل الأسهم عبر الحدود.. والحواجز القائمة أساساً ما بين المصرف والزبون وشركة التأمين أصبحت في تضاؤل متواصل. أما علي مستوي التحسب للأزمات، فهناك بلدان اثنان فقط من أصل أحد عشر بلداً من بلدان منطقة اليورو تمارس بعض الرقابة علي مؤسساتها المصرفية.. علماً بأن لا شيء في معاهدة ماسترخت، ولا في البروتوكولات الأوروبية المتعلقة بالمصارف، يمنع التعاون الطوعي ما بين السلطات وإدارات القطاع المصرفي. بل، علي العكس، هناك آليات متعددة للتعاون الثنائي "أو أكثر" وخاصة ضمن إطار "لجنة الرقابة المصرفية" التي تتمثل فيها جميع المؤسسات المصرفية الوطنية. أما عن افتقار بنود معاهدة ماسترخت إلي التدابير التي تعطي للبنك المركزي الأوروبي دور المنقذ الأخير للمصارف المتعثرة، فالحجة الأوروبية التقليدية هنا هي ضرورة ترك حصول "فوضي بناءة" لمنع حصول "خطر أخلاقي". يقول "تومازو بادواشيوبا" أحد كبار أركان البنك المركزي الأوروبي: في حال حصول أزمة مصرفية، يتعين علي البنك المركزي الأوروبي أن يقرر السماح أو عدم السماح للمصارف المركزية الوطنية في إصدار السيولة اللازمة للمؤسسات المصرفية المتعثرة.. إنما، وبرغم صلاحياته، فسيكون علي البنك المركزي الاستعانة بمعلومات لجان الرقابة ليتمكن من تخمين حجم الأخطار، وليتمكن من معرفة ما إذا كانت الأزمة القائمة هي أزمة سيولة أو عجز عن سداد الديون. ويضيف "شيوبا" المشكلة تكمن في التوصل إلي معرفة ما إذا كان البنك المركزي الأوروبي سيتلقي معلومات لجان الرقابة بطريقة تلقائية أو بطريقة تحددها تلك اللجان نفسها. ويقول "جون بلندر"، المحرر المالي في "الفايننشال تايمز" اللندنية، انه لابد من حصول إفلاسات مصرفية كبري لكي يعتبر البنك المركزي الأوروبي أن هناك فعلاً أزمة مصرفية خطيرة علي المستوي الأوروبي ككل. وهكذا، يضيف "بلندر" فإن من بين الدوافع الرئيسية للسباق الحاصل حالياً في منطقة اليورو نحو النمو الخارجي، تبرز رغبة رؤساء المصارف الأوروبية في إعطاء الأسواق المالية الانطباع بأن وضع مصارفهم أصلب وأقوي بكثير من أن يتعرض لأي إفلاس. لكن حجم المصرف يتحوّل هنا إلي مشكلة بحد ذاتها.. إذ كلما كبر حجم المصرف كبرت صعوبة إنقاذه في حال تعثره! وبالفعل، وفي غياب اتحاد سياسي يواكب الاتحاد النقدي الأوروبي "اليورو"، يبقي بإمكان الحكومات الوطنية أن تتملص من التكلفة المترتبة علي قيامها بإنقاذ مصرف دولي متعثر عامل علي أراضيها.. وبالتالي، ستقوم كل حكومة أوروبية بالوقوف مكتوفة اليدين علي أساس قيام غيرها بتكبّد أعباء عملية الإنقاذ المصرفية. وسط كل هذه التشابكات الضبابية، يقول "بلندر" يصبح من الطبيعي جداً حصول أزمة مصرفية كارثية في أوروبا اليورو خلال العشر سنوات المقبلة علي أبعد تقدير. وبناء علي ذلك فإن أوروبا مقبلة علي أزمة انهيارات مصرفية مدمرة في غضون السنوات العشر المقبلة.. والأسباب ليست عالمية خارجية فقط، بل: أوروبية داخلية بالدرجة الأولي.