قبل سبعة عشر عاما واجهت ما يمكن أن أصفه بأصعب تحد واختبار لي في الحياة. فقد رزقنا الله سبحانه وتعالي بكبري أولادي إسراء لأكتشف بعد عام من ولادتها أنها تعاني عجزا كاملا في السمع. وطفت بها علي كبار الأطباء معتقدا أن لكل داء دواء ومتخيلا أن بالامكان إصلاح ما قد ضاع. ولم أجد في قلوب الاطباء رحمة ولا تعاطفا ولا ضوءا ولا نورا، بل وجدت في عالمهم الغريب أبشع مظاهر الاستغلال والتجارة والتعامل مع المريض علي أنه مجرد حالة من آلاف الحالات أو رقما من الأرقام لا يأتي من وراء مرضه إلا مزيد من الدخل والأرباح..! وعندما وصلت ابنتي إلي بداية مرحلة الدراسة، كانت معاناتها تفوق الوصف، فلا اهتمام ولا انسانية ولا تفاعل، ولا وقت لأحد لأن يوليها قدرا من الرعاية ولا مدرسة أيضا تقبل بوجودها وتتحمل مسئوليتها..! وغادرت مصر كلها متألما، محطما ومعذبا أبحث في بلاد الله عن مكان يمكن أن يمنح طفلتي الأمان والأمل، ويعيد إلينا البسمة والتفاؤل. وفي البحرين.. هذه المملكة الصغيرة علي شاطيء الخليج وجدت ما كنت أنشدة وأبحث عنه، وجدت قلوبا أحاطت ابنتي بالحنان ومنحتها الثقة وشدت من أزرها في سعيها نحو حقها في الحياة وحقها في التعليم وحقها في اثبات ذاتها وحقها في التفوق أيضا. فالسنوات كانت تمر والمعجزة تتحقق وأشاهد أمام عيني طفلة تنمو بلا عقد أو نقص أو احساس بأنها أقل من أقرانها وأقاربها وأصدقائها أشاهد طفلة تقبل علي الحياة بحماس واصرار وإرادة علي النجاح. وتأتيني تقاريرها الدراسية لأقرأ عبارات المديح والاشادة بمجهودها وعزيمتها وسعيها في سبيل العلم. وأجلس معها استكشف عالمها لأجد أن الله سبحانه وتعالي قد منحها الكثير ولم يأخذ منها إلا القليل، منحها حب الناس واعجابهم منحها الذكاء ورجاحة العقل، ومنحها فوق هذا كله إيمانا عميقا بالمولي عز وجل وبقبول ارادته ومشيئته. وحتي عندما ذهبت بها لإجراء جراحة دقيقة معقدة لزراعة القوقعة أو ما يعرف تجاوزا بتركيب سماعة الكترونية داخل الأذن الوسطي فإنها كانت حريصة علي أن تؤكد لي أن فقدان السمع الذي تعاني منه أصبح أمرا لا يقلقها، وأنها تخشي أن تكون مصدر قلق أو ارهاق لي أو أن تحملني ما لا طاقة لي به. ويمنحنا المولي القدير مكافأة المثابرة والتعب وسنوات المعاناة فقبل أيام قليلة أعلنت نتيجة امتحانات شهادة الثانوية العامة في مملكة البحرين، وكانت اسراء في مقدمة الناجحين بتفوق واستطاعت أن تحصل علي هذه الشهادة بمعدل 2.94% متفوقة في ذلك علي أقرانها لتضع اسمها في لائحة الشرف ولتطير بنا فوق السحاب في عالم آخر وبشعور مختلف لا يمكن أن يعيشه أو يتخيله إلا الذين مروا بنفس التجربة وتفاعلوا مع كل ما فيها من خير أو شر..! وتأبي إسراء إلا أن تواصل دراستها في الوطن الأم، في مصر التي خرجت منها تبحث عن أمل وتعود إليها باحثة أيضا عن أمل. فهي في طريقها للالتحاق بكلية لطب الاسنان في احدي جامعات مصر، وحيث يمكنها أن تبدأ طريق الاستقرار في وطنها الذي عشقته رغم المعاناة ورغم البعد ورغم الصعاب. وأعود إلي مصر بعد سنوات طويلة من الغربة أعود خائفا علي ابنتي من صدمة أخري في حياتها أعود خائفا علي أولادي من أن يكون الوطن الذي حلموا به مختلفا عن واقعهم الذي عاشوه، وعن حياتهم التي عرفوها. أعود إلي مصر متخوفا من قلوب لا ترحم قد لا تحيط ابنتي بالرعاية والحنان ومن نفوس لا تصدق في مشاعرها ولا تحترم حياة الآخرين ومعاناتهم. ولكني أعود وأنا أشد إيمانا ويقينا بالله ومشيئته سبحانه وتعالي وبأن ابنتي الآن أشد قوة وصلابة وأنها يجب أن تواجه بشكل مختلف، وأن تتأقلم مع الخير والشر، وأن تدرك أن الطريق لن يكون مفروشا بالورود وأن الناس هذه الأيام لا تفرح لنجاح أحد ولا تتعاطف مع أحد وأن الحياة أصبحت من القسوة بحيث فقدنا معني الحياة. وأنا أكتب هذا المقال الذي أستأذنكم في كتابته لأنني سعيد بابنتي وأريد أن أشارككم جميعا الفرحة بها، أريد أن أقول إن الله سبحانه وتعالي يمنحنا اليسر بعد العسر، وأن الأمل موجود ولا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليإس، ولكل من وجه نفسه في حالة مشابهة لحالتي أن يؤمن بالمحاولة والتكرار وأن يتقبل قضاء الله وقدره بصدر رحب، فالإعاقة ليست في البصر أو السمع أو الجسد، وإنما الاعاقة هي اعاقة البصيرة والعجز عن تقبلها والتغلب عليها. كما أنني أكتب هذا المقال لعله يكون صرخة توقظ أصحاب الضمائر الحية ليسارعوا في إقامة مشروعات تعليمية مميزة تساعد وترعي ذوي الاحتياجات الخاصة وتوفر لهم الحق في الحياة والحق في أن يبدعوا ويتفوقوا ويقدموا شيئا لأسرهم ومجتمعهم. إن ما يؤسف له أن مصر الحضارة والعراقة لا تولي قدرا كافيا من الاهتمام لذوي لاحتياجات الخاصة ومازال المجتمع يتعامل معهم بلا مبالاة وباستهتار وكأن لا وجود لهم. ولو تحدثت عن المعاناة التي يتعرض لها ذوو الاحتياجات الخاصة في مدارسنا، وفي المعاهد الحكومية لتعليمهم وتدريبهم لكتبت في ذلك كتبا ومجلدات تعكس في النهاية معني واحداً وهو أنه لا رحمة ولا تراحم ولا معني من معاني الإنسانية والآدمية. واستميحكم عذرا ففرحتي لن تكتمل إلا عندما سأري الفرحة في عيون الآخرين وخاصة هؤلاء الموجودين في بلادي الذين يحتاجون لكل الدعم والمساندة. Sayedelbably@ hotmailcom