تستخدم الحكومة كثيرا هذه الأيام عبارة "نأخذ من الأغنياء ونعطي الفقراء"، وذلك تبريرا للعديد من الضرائب الجديدة أو القادمة التي تفرض أو في محاولة لإشاعة مفهوم العدل الاجتماعي أو - وذلك هو الخيار الأخير - ربما لتؤكد بما لا يدعو للشك أنها حكومة الفقراء قبل أن تكون حكومة الأغنياء كما دائما تتهم. وأيا كان تبرير استخدام العبارة فأظن أنها تستخدم بشكل متكرر ومباشر يزعج الأغنياء ولا ينفع الفقراء، بل إنها في الواقع تستعدي كل طرف علي الآخر دون أن تحدث تقاربا فعليا بين فجوات الدخول أو تعايشا أفضل بين الجانبين. والجملة التي تستخدمها الحكومة تحمل سياستين في آن واحد "نأخذ" أي الضرائب، و"نعطي" أي الإنفاق أو الموازنة. والسياستان مرتبطتان ببعضهما بشكل أساسي، فالأصل في الأشياء أن الدولة تفرض الضرائب - إلي جانب موارد أخري طبعا - لكي تصب جميعها في وعاء واحد أو موازنة واحدة ثم يتم تخصيص انفاق الموازنة في أوجه مختلفة. ولا أظن أن القضية هنا في الضرائب بقدر ما هي في الإنفاق وكفاءته وقدرته علي إحداث ما تتغني به الحكومة دائما من اتجاه لتحقيق عدالة اجتماعية. فإذا لم يحقق الإنفاق أهداف الدولة المعلنة، وإذا لم يحدث به تغييرا جوهريا ليستهدف الفقراء بشكل أساسي ويقدم خدمات لجميع المواطنين بشكل عام، فإن الضرائب عندها تتحول من أداة لتحقيق العل الاجتماعي إلي جباية وتفقد مشروعيتها. وانفاق الدولة هنايقوم علي خيارات اجتماعية وسياسية، فهي إما تختار أن تنفق علي رغيف العيش أو علي طرق الصعيد أو علي الطريق الدائري أو علي المناطق الجديدة أو علي المدارس والتعليم والصحة، وكل خيار وله تكلفته وله أهدافه. لكن ما يبدو لنا هنا أن الخيارات آنية وقصيرة الأجل، تستهدف سد عجز فجوة الغذاء وهي ضرورية وسد الأفواه كي لا ينقلب الناس علي الحكومة والنظام . فهي تستهدف الإنفاق الآن ولا تنظر للأجيال القادمة. فالإنفاق للأسف لا يستهدف تنمية حقيقية تستمر لسنوات أطول ولا يستهدف تنمية بشرية أو حتي انفاقا علي بنية أساسية تخدم تلك التنمية "كأن يتم الاتفاق بشكل أكبر علي طرق الصعيد وبنيته الأساسية مثلاً"، ناهيك عن استهداف التعليم أو الصحة أو الخدمات الاجتماعية التي تدهورت إلي أدني مستوياتها ولا تجد من ينقذها من القاع الذي وصلت إليه. لذلك كله فإن أي تحسن سيطرأ علي أحوال الفقراء لن يكون إلا تحسنا وقتيا قصير الأجل، يلتهم الموازنة ولن يجدي.. فيجد الفقير نفسه في حال لم يتحسن بينما يجد الغني نفسه ينفق بلا عائد لا عليه ولا علي الفقراء. إن العقد الاجتماعي بيننا وبين الدولة يحتاج إلي إعادة تعريف لجميع الأدوار: دور الغني، حقوق الفقير ومسئولية الدولة.. فالواضح هنا أن المطلوب أن تدار الدولة بواسطة القطاع الخاص: الاستثمارات، الصحة، التعليم، الضرائب، البنية الأساسية.. فيما تنسحب الدولة من كل أدوارها الأساسية بإدعاء أن هذا لصالح الفقراء، لكن الحقيقة أن الدولة قد فقدت من زمن غير قصير شرعية هذا العقد الاجتماعي منذ تخلت عن دورها الأساسي.. ولا نريد هنا عودة الدولة للإنتاج أو للتسعير أو للمنافسة في الأسواق ولكن أدوار الدولة معروفة حتي في اعتي الاقتصاديات الرأسمالية. إن التغني بالشعارات الشعبوية والاشتراكية لن يحقق للحكومة أو للدولة لا شعبية أكثر ولا عدالة أكبر.. لكن خللا ما لابد من إصلاحه ما بين منظومة فرض الضريبة ومنظومة انفاقها.. عندها فقط يمكن للغني أن يدفع دون تبرم.. ويمكن للفقير أن يشعر بشيء من السلام الاجتماعي لأنه يعيش في ظل دولة قوية تحترم حقوقه وتحافظ عليه حتي لو كان بها الكثير من الأغنياء.