خلال العملية البرية الواسعة التي شنتها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة ووصفت بأنها الاسوأ في تاريخ الاحتلال ومحرقة نازية ضد المواطنين جاءت كونداليزا رايس إلي المنطقة رغم الاحتجاج الإسرائيلي مطالبة بضرورة وقف العمليات في غزة والعودة إلي المفاوضات. زيارة رايس المتعجلة كانت مقررة في وقت لاحق إلا أنها عجلت بها لمنع التدهور الحاصل وإعادة المفاوضات إلي سياقها الطبيعي خاصة بعد إعلان الرئيس محمود عباس "أبومازن" تعليق المفاوضات مع إسرائيل احتجاجا علي المجزرة التي ارتكبتها بحق أبناء قطاع غزة. إن قضية المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي جزء مهم من الاستراتيجية الأمريكية وسياستها في الشرق الأوسط فالولاياتالمتحدةالأمريكية بحاجة إلي حشد دول الشرق الأوسط والدول العربية لمواجهة الخطر الإيراني وحزب الله علي حد سواء وهي بحاجة إلي دعم الدول العربية أكثر من أي وقت مضي في هذا الشأن لذا فإن الولاياتالمتحدة حريصة كل الحرص علي استئناف المفاوضات بين الجانبين إذ تشكل هذه المفاوضات عنوان استقرار ولو شكليا بالنسبة للوعود الأمريكية بإقامة الدولة الفلسطينية مع نهاية العام الحالي، وإنهاء حالة التوتر والصراع القائم في المنطقة خاصة ان الدول العربية أبدت حسن النية في أكثر من مبادرة كان آخرها المبادرة العربية والتي شكلت اثبات حسن نوايا عربية ورغبة حقيقية في السلام إذا أرادته إسرائيل. الإدارة الأمريكية تخشي من فشل التوافق الإسرائيلي الداخلي بشأن تحمل مسئولية تبني المبادرة العربية إذ هدد العرب بسحب تلك المبادرة إذا لم تستجب إسرائيل لها واستمرت في التسويف والمماطلة وإملاء شروطها وفرض أجندتها علي المنطقة وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية ستكون في مواجهة خلل استراتيجي يكمن في اتجاه تجييش وحشد الموقف العربي ضد إيران وحزب الله. ورغم أن الحقيقة الواضحة علي الأرض تظهر أنه لن يكون هناك دولة أو حل جذري بنهاية 2008 فإن ما يعني الإدارة الأمريكية هو مواصلة التفاوض دون انقطاع تحت أي ظروف حتي توحي للعالم بأنها تقوم بدورها كراع لملف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني علي أكمل وجه وانها لا تدخر جهدا في تحقيق تقدم علي المسار الفلسطيني الإسرائيلي لذا فإن ذلك يفسر حرص رايس علي التعجل بزيارة المنطقة وإعطاء الأوامر للطرفين باستئناف المفاوضات الأمر الذي أحرج الحكومة الإسرائيلية وجعلها تصدر قرارا أعلنت فيه وقف العمليات حتي لو كان هذا التوقف بلا معني وصدر فقط من أجل الاستهلاك المحلي، كما أن وقف العمليات من وجهة نظر القادة الإسرائيليين يعكس ضيقا متزايدا داخل المؤسستين السياسية والعسكرية إذ إن رد فعل الحكومة الإسرائيلية لم يكن يتسم بالثبات. لقد كان بإمكان الرئيس عباس استغلال العملية البرية الإسرائيلية لصالحه بشكل أفضل حينما أعلن تعليق المفاوضات علي الجانب الإسرائيلي إلا أن تلكؤه في الإعلان علي مدي ثلاثة أيام أفقده التأييد الإعلامي الفلسطيني فخسر إعلاميا لأنه كان يستطيع إيقافها فورا وعندما اتخذ القرار بإيقافها جاءت رايس مطالبة بالعودة إليها فورا رغم أن استمرار المفاوضات علي هذا النحو أضعف موقف عباس تماما وأفقده الكثير من شعبيته ليصب ذلك في مصلحة حماس التي عادت إلي الصدارة واكتسبت قدرا من التعاطف الشعبي الذي كانت قد بدأت تفقده تدريجيا. إسرائيل التي تعلم أن استئناف المفاوضات هو مصلحة استراتيجية أمريكية لكنها ليست مصلحة إسرائيلية خاصة في ضوء مطالبات أحزاب عينية متطرفة بوقف هذه المفاوضات فورا والتمادي في العنف ضد الفلسطينيين لاجتثاث بؤر الإرهاب -علي حد تعبيرهم- جعل من تعليق العملية البرية مجرد استراحة لالتقاط الأنفاس وتحاشيا لإحراج رايس التي جاءت للتهدئة لذا لم تتوان في فرض أجندتها باستمرار إطلاق النار في عمليات محدودة علي قطاع غزة. حماس في المقابل تملك قواعد اللعبة وتعرف جيدا أهمية دورها في هذه المرحلة وهي تعلم ان الرئيس عباس لا يملك من الأوراق الكثير وأنه مقتنع تماما باستمرار التفاوض مع إسرائيل وان فشل المفاوضات لا يعني توقفها وإنما الاستمرار في المزيد منها وقوله المأثور في ذلك "ما لا يأتي بالمفاوضات، يأتي بمزيد من المفاوضات". فالرئيس عباس في الموقف الأضعف وهو يراهن علي المفاوضات لتأتي بنتيجة كما أن الدخول في أي حوار مع حركة حماس يعني تأليب الغرب والولاياتالمتحدة عليه وإيقاف كل المساعدات والمكتسبات التي حققها في مؤتمر باريس الأخير والدول المانحة من دعم دولي للسلطة وحكومة د.سلام فياض وبالتالي فإن ايقاف هذا الدعم يعني العودة إلي الحصار وسقوط حكومة فياض وخسارة كل شيء بالعودة إلي المربع الأول بالإضافة إلي أن الرئيس عباس لا يريد التفاوض مع حركة حماس من منطلق قوتها وهي مسيطرة علي زمام الأمور في قطاع غزة الأمر الذي يشكل عائقا نفسيا كبيرا علي هيبة الرئاسة. حماس التي تدرك جيدا هذه الأمور تلوح بمفاتيح الحل وتبدي بعض المرونة فإذا أرادت حماس أن تقوم بتهدئة مع إسرائيل وتوقف الصواريخ لابد أن يكون في المقابل ثمن لا يقل عن فتح المعابر وتسهيل حركة المواطنين وفك الحصار الشامل وليس الجزئي عن سكان القطاع بما يشكل لها أرضية مريحة في بسط نفوذها في القطاع فالثمن الذي تريده حماس كي توقف صواريخ المقاومة وتعلن عن تهدئة مع إسرائيل لتترك المجال لمحمود عباس بالسير قدما في تجاه المفاوضات هو في واقع الأمر اعتراف ضمني بحقها في إدارة قطاع غزة بلا منازع وهو الأمر الذي مازال محل شك علي جميع الأصعدة.