هل أصبحنا "شطارا" في الكلام فقط وتقديم النصح للآخرين؟! وهل أصبحنا عاجزين عن "الإصغاء" والتأمل واستيعاب ما نسمع والتعلم من النصائح التي لا نتوقف عن تقديمها..! وكيف أصبحنا أمة صناعتها فقط الكلام والتنظير والتحليل في الوقت الذي تراجعت فيه قيم الانضباط والعطاء والعمل. ولماذا لا نؤمن بالتخصص وأن يتقن كل منا عمله ويبدع في مجاله بدلا من أن نصر علي أن نكون "بتوع كله" ونعتقد أننا خبراء في السياسة والاقتصاد والرياضة والحرب أيضاً..! إن أي شخص بسيط لم يتلق من العلم نصيبا كبيرا لا يتواني عن تقديم النصائح الطبية متطوعا ويقوم بوصف الدواء وتحديد فوائده أيضا عندما يستمع إلي آخر يشكو علة أو مرضا بل ويطالب أيضا بكل بساطة بعدم التوجه للطبيب المختص لأنه لا ضرورة لذلك.. وأن العلاج بسيط كما ذكره..! والذين يستمعون ويشاهدون معلقي ومحللي كرة القدم من الرياضيين السابقين وهم يقومون بالإدلاء بآرائهم وتعليقاتهم أثناء وبعد أي مباراة وينسفون خطط المدرب نسفا ليتساءل: وأين كان هؤلاء بكل هذه المواهب الفذة عندما كانوا في الميدان أثناء اللعب أو التدريب، ولماذا لم يخرجوا كل هذا المخزون الكبير من العلم والمهارة في الملاعب..! ولا يتوقف الأمر عند الرياضة أو ما شابهها إذ إن الجميع أصبحوا خبراء أيضا في كل المجالات وخاصة منذ ظهرت الفضائيات التليفزيونية الاخبارية وبدأت في البحث عن من يملأ ساعات الارسال الطويلة ومن يتطوع بالتحليل والتعليق فرأينا خبراء في الحروب وفي الطيران وفي حقوق الإنسان وفي كل المجالات والشئون دون أن تكون لدي معظم هؤلاء الخبراء إمكانيات حقيقية أو خبرات سابقة في هذا المجال، ويكفي أن يكتب أحد الصحفيين مقالا عن دولة خليجية أو يقوم بزيارتها مرة ليصبح بعد ذلك خبيرا في الشئون الخليجية وهكذا..! ولذلك يصبح كلامنا لا معني له، كلام جميل منمق يستند إلي التعبير عنه إلي شخصية صاحبه وقدرته علي العرض والإلقاء ولكنه يخلو من المحتوي والمضمون والمعلومات الصحيحة. وقبل فترة علي إحدي الفضائيات التليفزيونية العربية دار حوار من هذا النوع الذي نتحدث عنه بين من اسمي نفسه خبيرا في الشئون العراقية وأحد الشخصيات العراقية البارزة. وظل هذا الخبير يتحدث بلا انقطاع دون أن يمنح الفرصة للطرف الآخر وكأنه في حصة دراسية لتسميع ما يحفظه من معلومات وبيانات عن العراق وتطورات الأحداث فيه مستندا في ذلك علي معلومات مستقاه من الصحف وتقارير وكالات الأنباء. ولم يجد الطرف الآخر الذي كاد يجن من فرط جهل هذا الخبير بحقيقة ما يجري فعلا في العراق إلا أن ينظر مبتسما إلي مذيع الحلقة قائلا إن هذا الخبير الذي أتوا به معجب تماما بالاستماع إلي صوته فقط ولا يريد أن يمنح الآخر مجرد فرصة لكي يتحدث ويعبر عن واقع يعايشه وأن يعطي نفسه أيضا فرصة للتفكير والتأمل فيما سيستمع إليه لعله يغير بعض آرائه وقناعاته..! والمشكلة أن أحدا فعلا لا يريد أن يستمع ولا أن يتعلم لأننا نناقش قضايانا بروح من التعصب لآرائنا ونتعامل معها بطريقة الحوار الكروي كالذي يدور عندما تكون هناك مباراة بين قطبي الكرة في مصر الأهلي والزمالك وحيث الانحياز والتعصب يبلغ مداه الأعمي..! والبعض في ذلك يعتبر أن التسليم برأي الآخر أو الاقتناع به أو الأخذ بما فيه هو نوع من الضعف أو تقليل المكانة أو الدونية في التفكير مع أن الأخذ بما قد يقوله الآخرون هو نوع من الثقة ونوع من القوة ودليل علي رجاحة العقل والرغبة في الاستفادة من إمكانيات الآخرين وقدراتهم. وهذا البعض لا يتورع عن إهانة الآخرين وأفكارهم والتسفيه من آرائهم إذا كان الحوار في نطاق ضئيل أو خاص ولكنه لا يتردد في تبني أفكارهم وآرائهم علنا وكأنها نابعة منه ومن اجتهاده، بل وبكل الصلف والوقاحة لا يتردد أيضا في ترديدها علي مسامع من سبق أن أسمعوه إياها وسخر منهم من قبل..! ومن المضحك والمثير للسخرية ما يفعله البعض أيضا عندما يقدمون نصائحهم وتحليلاتهم إلي دول ورؤساء لا يكترثون ولا يهتمون بما يكتبون أو يعلقون كأن يكتب أحد الكتاب مقالا مطولا توجد فيه مجموعة من المقترحات والسياسات التي يقول إن علي الرئيس الأمريكي جورج بوش أن يأخذ بها في طريقة إدارته للحكم ومعالجته للقضايا الدولية معتقدا في ذلك أن البيت الأبيض سوف يشكل علي الفور لجنة خاصة لدراسة ما ورد فيما قاله من نصائح خاصة للرئيس الذي سيكون عليه تجاهل دراسات وأفكار وتوصيات وتقارير مستشاريه ومخابراته ووزرائه ومختلف الأجهزة التي يحكم بها..! وليت الكاتب في ذلك كتب يقول إنها مجرد آراء وأفكار يعتقد في جدواها لكان ما كتبه مقبولا ومفهوما ولكنه كتب يقول إن علي الرئيس بوش أن يأخذ بها وإلا فإنه سوف يخطئ خطأ كبيرا وسيدفع ثمنا فادحا..! ولكنه لم يكتب ذلك وإنما عبر ببساطة عن حقيقة أزمتنا في اننا نعتقد جميعا أن ما نقوله وما نكتبه هو الصواب وهو الحكمة وأن من يعارضنا الرأي أو وجهة النظر يصبح خصما وعدوا وحاقدا كذلك..! إننا جميعا "شطار" في الكلام وفي قلب الحقائق وتلوينها ولذلك اختلطت الأمور علينا، وصرنا لا نسمع إلا أنفسنا.. تماما كما فعلنا منذ عام 1948 عندما ظللنا نردد أن قضية العرب عادلة وأن العالم كله مقتنع بعدالة قضيتنا.. وأفقنا يوما علي أن هذا العالم كله كان مقتنعا بأننا مجموعة من الدول التي تحاصر دولة صغيرة وتريد إلقاءها في البحر.. وثبت اننا وكما هي العادة دائما نخاطب أنفسنا ونخدع أنفسنا بالكلام.. بينما العالم لا يستمع إلي ما نقوله ولا يعرف عنه أيضا شيئا..! [email protected] [email protected]