هل لابد للمقالات أن تتناول دائماً قضايا سياسية .. وأحداثاً راهنة .. وأن تكون حول موضوعات عربية أو إسلامية ... والأهم من كل ذلك أن تتناول حاكماً أو مسؤولا بالقدح والتقريع, وهل هناك مشكلة في الخروج عن المألوف والمتعارف عليه في الكتابة الصحفية العربية؟ ألم يأن الآوان لأن تبدأ مقالاتنا في التعرض الحقيقي إلى مشكلات وهموم المجتمعات التي نعيش فيها .. ليست فقط السياسية ولكن الاجتماعية والثقافية والفكرية والعقدية أيضاً .. نحن في العالم العربي والإسلامي ليس لدينا الكثير من وسائل الإعلام المستقلة المتميزة .. فلذا لزم علينا –في ظني- أن نحسن استخدام ما بين أيدينا من وسائل إعلامية محدودة لتعبر عن مشكلاتنا وتساعد في حلها. إن من أبرز مشكلات الكتابة العربية في مجموعها والقراء العرب أيضاً الميل الدائم والمستمر إلى الغرق في تقييم الواقع والحكم على الآخرين حتى أن جل الجهد العام لكثير من الكتاب والقراء على حد سواء يذهب هباء في محاولات مستمرة لفهم الواقع الذي يتغير باستمرار وبالتالي تتوالى الحاجة إلى استمرار محاولة الفهم بلا نهاية حقيقية يتحول بعدها الفهم إلى محاولة التطبيق. ولذلك أصبحت أمتنا وصحفنا وحتى معظم قرائنا هامشيين على ساحات العمل والعطاء في العالم. أصبحنا نجيد أدوار المتفرجين ونبرع في تقمص شخصيات النقاد المخلصين. كم منا يقضي أغلب الوقت في نقد الحكام ثم الاعتراض على الرؤساء في العمل إلى تقييم أداء الآخرين في كل شيء إلى الاعتراض والامتعاض من تصرفات الغير إلى البكاء على الواقع والتحسر على الماضي وفقدان الأمل في المستقبل. كم منا يذهب أغلب يومه في مراقبة الناس فيموت كل يوم ألف مرة ومرة هما وغما أو حقدا وحسرة. كم منا ينسى أن العمل أهم من النقد وأن العطاء هو نقطة الميلاد التي يظهر من خلالها للواقع كل أمل. ذكر لي صديق أنه كان جالساً مع أحد المفكرين البارزين على الساحة الإسلامية, وكان هذا المفكر يتحدث عن أهمية إقامة مراكز فكرية لدراسة مواقف الغرب ومحاولة فهم طرق تفكيرهم. ورغم أن صديقي وافقه على الفكرة من حيث الأهمية, إلا أنه ذكر له في المقابل موضوعاً آخر أكثر أهمية وفعالية, وهو لماذا لا نصنع نحن الأحداث, بدلاً من أن تنفق جل الجهود في التعليق على الأحداث؟ لماذا لا نكون مراكز لصناعة الواقع بدلاً من أن نكون مراكز لدراسة الواقع. امتعض المفكر الكبير من الشاب الذي يدعو إلى العمل ولا ينكر قيمة الفكر. وعندما حدثني هذا الصديق بالقصة .. أذكر أن الانطباع الأول لي كان موافقاً لرأي المفكر فكيف تخالف مفكراً وكيف تنكر على إسلامياً؟! لم نتعود على ذلك .. ولم يتعودوا هم أيضاً على ذلك. ولكنني بعد قليل تأمل وجدتني أشارك صديقي رأيه .. فهل كثرة المدارس الفكرية في المجتمعات المتخلفة ظاهرة صحية لمن لا يعمل ولا ينتج أم أنها تجسيد حقيقي للمرض ودلالة عليه؟ إن الغرب نجح إلى حد ما في تسيير الواقع الحالي للعالم, ولذلك فلا شك أنه بحاجة إلى مراكز التفكير لمساعدة صناعة القرار من أجل مزيد من الهيمنة والتسلط. أما نحن في عالمنا الحالم, فإننا نضيف بهذه المراكز غلالة خادعة من العمل الفكري الذي يعزز من المرض بدلاً من علاجه. المهم أن نتوقف ونتأمل مدى تغلغل أبشع الأمراض العربية في حياتنا اليومية: الاتكالية والولع بالنقد والتقييم. لقد لاحظت أننا لا نذكر شخصاً إلا ونتبع ذلك الذكر بالتقييم سلباً أو إيجاباً, وكأن الأمر ضروري. ولا نذكر مسئولاً أو مرؤوساً إلا ونرفق مع ذلك جملة أو أكثر تحدد موقفنا, وكأن العالم ينتظر ذلك. وننفق الكثير من الجهد والوقت لكي نتقن هذه الخبرة ونجمع لها المعلومات والوثائق لنظهر دائماً بمظهر العارفين. وتذهب أوقاتنا وحياتنا ومراكز قوانا الفكرية والعملية في التقييم والنقد وبحث أحوال الآخرين. لقد لفت نظري أن العرب هم أكثر شعوب العالم اعتراضاً على الحكام في الألعاب الرياضية ابتداء من مباريات الشوارع في الأمسيات الرمضانية إلى كئوس الملوك وأبطال الدوري وما شابه. ولذلك نحتاج دائماً إلى حكام من الخارج لكي نتوقف قليلاً عن النقد. لا أدري لماذا لم يفكر الرؤساء الذين يتمتعون بكراهية شعوبهم في حل عملي يقتبس من ملاعب الكرة فيأتون بحكام أجانب لبلادنا لعل ذلك يجعل احتمالية العدالة أكثر رجوحاُ, وبالتالي تتفرغ الشعوب للعمل والإنتاج بدلاً من استمراء النقد والتباكي على الحال. انظروا حولكم أيها العرب والمسلمون, فالعالم يمضي سريعاً ونحن محلك سر .. نلعن الحاكم سنوات ولا نغير من أحوال بلادنا .. نلعن الغرب صباح مساء ونصطف أمام أبواب سفاراته .. ننتقد كل ما في الشرق ولكننا نحبه ونحن إليه كل يوم .. نبكي الواقع ولا نتحرك لتغييره .. نهزأ بكل عامل ولا نمد له يد .. نستصغر كل حل ونستعظم كل خطوة .. نكره كل حركة وننتظر من السماء البركة, ولكننا أيضاً لا نرى حاجة إلى رفع اليد بالدعاء فنحن لا نتحرك أبداً خطوة. إن شعوب إندونيسيا والفليبين التي يهزأ من أبنائها كثير منا للأسف لأنهم عمالة رخيصة في بلادنا قد غيروا واقعهم, وشعوب أوربا الشرقية انتفضت على سوء حال أنظمتها وخرجت من عصور الديكتاتورية لتقع في أوحال مشاريع الديقراطية الزائفة, ولكنها بالتأكيد تحركت وتبدلت. شعوب أمريكا الجنوبية تخلصت في معظمها من الدكتاتورية العسكرية البغيضة, وقدمت تلك الشعوب كلها من الدماء الكثير ومن العمل الكثير أيضاً. أما نحن فلا نزلنا نبحث وسائل التغيير, ونتأمل مكائد الأعداء, وندرس أفكار المستقبل, وكأننا كذلك الذي يذهب كل يوم إلى المخبز فيرى لوحة تقول "الخبز غداً مجاناً" فيعود أدراجه دون خبز ليأتي اليوم التالي وتبقى اللوحة تخبره أن الخبز غداً مجاناً .. أما اليوم فلابد أن ندفع ثمن الخبز لكي نأكله, ولابد أن نهز بجذع كل نخله لكي تساقط علينا رطباً جنياً, فالحياة عمل مهما كنا ضعفاء أو كرماء أو كلاهما, ولابد أن نعمل من اليوم من أجل أن يصبح أمل الغد واقعاً نحياه وننعم به .. أما النقد واستمراء النقد من أجل النقد ومزيد من النقد دون عمل أو طاقة حقيقية لتغيير الحال فقد أودى بنا إلى ما نحن فيه اليوم, ولنتأمل الواقع, ونبدأ في العمل [email protected]