ما الذي جري لنا؟ هل لا يوجد في بلادنا إيجابيات أو انجازات نفاخر بها ونتحدث عنها وتكرس لها وسائل الإعلام امكانياتها ونفوذها وانتشارها؟ ان الذي يحدث الآن من مختلف وسائل الإعلام هو عملية "تشريح" وتقطيع أوصال مستمرة للجسد المصري وإظهار لعوراتنا في كل مكان وبأي وسيلة. فصحيح أن هناك سلبيات كثيرة في المجتمع وربما كانت أكثر من الايجابيات وتطغي عليها، وصحيح أن هناك نوعا من الترهل في المجتمع بكل ما يعنيه ذلك من أمراض اجتماعية مخيفة وقاتلة، وصحيح أن هناك نوعا من الفساد أصبح يأخذ شكل المنظومة المقننة والعرف السائد، ولكن هذا كله يجب ألا يوقفنا عن محاولة احياء الأمل والتركيز علي النماذج الجيدة في المجتمع لمواطنين شرفاء يحاولون قدر الامكان أن يؤدوا دورهم بأمانة وضمير ويكافحون في سبيل لقمة العيش وتأمين مستقبل أسرهم. إنه لمن المؤسف أن كل البرامج التليفزيونية التي تتعامل مع قضايا الناس واهتماماتهم أصبحت برامج سوداوية تركز بشكل خاص علي أسوأ النماذج وتقوم بتضخيم كل الوقائع وتعتمد في أحكامها وتوجهاتها علي أقوال مرسلة أو مشاكل فردية لأفراد أدركوا خطورة وأهمية الإعلام فقاموا بعرض مشكلاتهم من خلال هذه البرامج لاكتساب تعاطف الرأي العام وجذب اهتمام المسئولين للحصول علي ما قد لا يكون حقا لهم.. ومن المضحك علي سبيل المثال في العديد من اللقاءات التي تجري مع أشخاص عاديين في قضايا سطحية أو حوادث فردية أن الواحد من هؤلاء يترك مشكلته التي جاء يتحدث عنها ليتناول مشاكله الحياتية الأخري وبحثه عن شقة أو توظيف ابنائه ثم يخاطب المذيع أو المحاور ليطالب بأن يتدخل السيد رئيس الجمهورية شخصيا لحل مشكلته، وكأنه بذلك يحاول بكل خبث وذكاء توريط باقي المسئولين الذين بالطبع لم يقوموا بحل مشكلته والاستجابة له بحيث أصبحت هذه البرامج التليفزيونية تسير في إطار واتجاه واحد وهو الاستجداء والمناشدة ويا أهل الخير تبرعوا وتقدموا. والمسئولية في ذلك تقع علي العديد من معدي هذه البرامج التليفزيونية التي تذاع علي الفضائيات فمعظمهم من الشباب صغار السن الذين يقومون في الصباح بالاطلاع علي الصحف اليومية والتقاط ما فيها من حوادث وقضايا وانتقاء الأكثر سخونة أو غرابة فيها ثم متابعة هذه الحوادث والاتصال بأبطالها واقناعهم أو اغرائهم بالظهور علي الشاشة وليس مهما ماذا سيقولون أو ما هو مصيرهم فالمهم في رأيهم هو الاثارة وجذب انتباه المشاهدين. ولقد كان موضوع الطفلة "هند" ذات الاحد عشر عاما التي انجبت بعد تعرضها للاغتصاب نموذجا وسقطة هائلة لهذه البرامج التي استضافت هذه الطفلة وقضت علي مستقبلها وتلاعب البعض بها فقام بتحفيظها ما تقول وما تدعي في أسوأ عملية استغلال إعلامي لحادث فردي بشع لم يكن مطلوبا أو مرغوبا أن يتم تداوله إعلاميا علي هذا الشكل. وقد يدفع البعض بأن الإعلام هو انعكاس لحال المجتمع وان هذا هو مجتمعنا اليوم حيث اصابه الكثير من الأمراض والتغيرات، حيث صرنا في زمن يقتل فيه الابن اباه وأمه، وينتحر فيه الأب لعجزه عن الانفاق علي أولاده ويقتل فيه الأخ أخاه لخلاف علي ميراث أو بضعة سنتيمترات في أرض متنازع عليها. وقد يكون ذلك صحيحا ولكن مثل هذه الحوادث لا تشكل اسلوبا في الحياة ولا ظاهرة عامة بقدر ما هي حوادث شاذة وغريبة وطارئة علي مجتمعنا ويجب أن تظل محصورة في هذا الاطار وان نتعامل معها من هذا المنظور دون أن نفضح أنفسنا بأنفسنا في كل مكان، ودون أن نجعل من أنفسنا اضحوكة ومادة للسخرية أمام الآخرين. فإلي جانب هذه الحوادث الشاذة هناك قصص مشرفة وجميلة لشباب مكافح ينجز الكثير ويضرب أروع الأمثلة في العطاء هناك شباب اعتمدوا علي أنفسهم وأقاموا مشروعات صغيرة ناجحة، وشباب اثبتوا تفوقهم ونجاحهم في كل المجالات واستطاعوا أن يطوروا من أنفسهم وقدراتهم وأساتذة وعلماء واطباء ومهندسون وعمال يديرون ويعملون في قطاعات ناجحة في جميع المجالات، وهناك نهضة عمرانية هائلة في كل محافظات مصر تتم وتقام بسواعد وأيد مصرية وهناك شباب مصريون يحققون نجاحات كبيرة في سوق البرمجيات، وهناك عشرات وآلاف الباحثين الشبان الذين يبحثون عن فرصة لتبني أفكارهم وأبحاثهم من أجل خدمة مجتمعهم وكل هؤلاء نماذج من هذا المجتمع لا تجد اهتماما ولا تركيزا من وسائل الإعلام ولا تعرف صورهم واخبارهم طريقا للنشر والانتشار. ولقد وفقت صحيفة "الجمهورية" كثيرا عندما بدأت تنشر في الصفحة الأولي كل يوم خبرا يدعو إلي التفاؤل عن إنجاز جديد لهذا الشباب وعن اختراعاتهم واسهاماتهم في محاولة لجذب الاهتمام نحوهم وتشجيعهم وفتح باب الأمل أمامهم. إننا جميعا مطالبون بأن نبدأ مسيرة احياء الأمل فهذا المجتمع لم يمت ولكنه يعاني من الكثير من الامراض التي لن يمكن علاجها إلا إذا اقتنع بأنه قادر علي التغلب علي أمراضه والتعافي من جديد فلن يقتلنا إلا روح اليأس التي اصبحت مستشرية والتي تقضي علي كل أمل في عودة الحياة من جديد ولن يقتلنا أيضا إلا محاولة البعض بيع هذا المجتمع لكل من يدفع وبأي ثمن وكلهم يبيع ويشتري فينا دون أن نملك قرارا أو حتي صوتا. [email protected]