من حين إلي حين تشدني ذكريات الأمس القريب وتأخذني من صخب الحاضر وضجيجه وتزرعني في قلب لحظات نادرة ووجوه نادرة. اعترف انني أجد نفسي مستسلما لجاذبية هذا الماضي القريب. قد يسألني أحد: لماذا؟ والإجابة ببساطة أن عصر التسطيح والتسالي طغي علي حياتنا بحيث لا يعرف شبابنا شيئا عن رموز التنوير في حياتنا الفكرية والأدبية. تشدني الذكريات إلي الدور السادس في الأهرام حيث كانت تسكنه كوكبة من المفكرين: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح طاهر وبنت الشاطئ وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس ود. حسين فوزي وثروت أباظة. كل هذه العقول كانت تسكن الدور السادس وقد رحلوا جميعاً، وأشعر بزهو انني عشت عصرهم، بل إنه اتيح لي التحاور معهم علي شاشة تليفزيون بلدي في أكثر من برنامج. أقول باعتزاز انني عشت زمن عمالقة الفكر في مصر الذين تركوا كتبهم قناديل مضيئة لأنهم قادوا الفكر في مصر في أصعب أوقاتها السياسية، إذ لم يكن العصر الشمولي ميالا للفكر والأدب وكان سكان الدور السادس يتمتعون بحرية نسبية حيث تصادف وجودهم في أهرام هيكل. واستطاع أستاذ الجيل محمد حسنين هيكل أن يحمي توفيق الحكيم يوم كتب "عودة الوعي" ورأي المجتهدون في المقال خطراً علي النظام. واستطاع أن يقف مع نجيب محفوظ حين فسر المجتهدون قصة كتبها نجيب محفوظ بأنها رمزية ولكنها نقد للنظام. استطاع هيكل اقناع عبد الناصر أن الفكر لا حدود له ولا سقف. كان هيكل أميناً مع عبد الناصر.. وكان راعيا للأدباء والمفكرين من سكان الدور السادس. كانت غرفة توفيق الحكيم هي قاعة الأدب والفكر وكان النقاش الفكري الحر مضيئاً. يدخل نجيب محفوظ مع الحكيم حول "العولمة والفكر" ويدور نقاش آخر في غرفة صلاح طاهر حول "نيتشه والنشوء والارتقاء" ويحمل د. حسين فوزي فكرة "خرافات العصر السائدة" وتقود بنت الشاطئ "تيار الوعي العام" ويدخل ثروت أباظة ويوسف إدريس في مناقشة حول "تقلص الطبقة الوسطي" ويصرخ ثروت أباظة: الطبقة الوسطي لم تتقلص، إنما الزحف الاشتراكي خدمها! ويدافع يوسف إدريس عن الاشتراكية التي يعاديها الرأسماليون، ويأتي صوت زكي نجيب محمود هادئاً "الفكر المسيس يقع في أسر النظريات فلا هو فكر ولا هو سياسة". كل هذه الأفكار المضيئة كانت تملأ ردهات الدور السادس. مناقشات جريئة تسطع في إطار من الرقي. لا مهاترات ولا نميمة ولا تدن ولا تقزم ولا شتائم ولا اسفاف. وكانت افكار سكان الدور السادس تظهر في مقالات هؤلاء المفكرين واحيانا في الإذاعة أو التليفزيون "ذو القناتين فقط". كان علم التنوير يرفرف دائماً. وفي قلب هذه الصحوة الفكرية، جاء عبد الحليم حافظ وفرسان الألحان الطويل والموجي وبليغ وعرفنا نزار قباني وكان صلاح جاهين متألقا. وعرفت قصص طه حسين طريقها للسينما ورأينا دعاء الكروان وكان كامل الشناوي يملأ نيل القاهرة بحكاياته وتعليقاته النادرة وكان دائم البحث عن المواهب وكان الفن مشتعلا وفي المسرح رأينا أفكار سعد وهبه في سكة السلامة والسبنسة وكلها أعمال مسرحية نقدية. حتي قيل إن مسرح الستينيات هو جوهرة المسرح المصري، ذلك رغم الحصار "علي حد قول الفريد فرج" واحد من فرسانه. ............................... ما الذي جري لنا؟ لماذا تدهورت أحوالنا الأدبية والفكرية؟ هناك حريات بلا حدود، فهل استهلكناها في السياسة؟ هل كان الماضي هو عصر العمالقة؟ هل ضربت التكنولوجيا عصب الفكر والأدب وهمشته؟ هل انصرف الناس عن الكتاب وتسمروا أمام الشاشات؟ هل تكشفت "الشخصانية" داخلنا وثارت لمصالحنا الخاصة الأولوية؟ هل من أجل هذا الحال، كنت أرشف من خيالي واستنطق ذاكرتي إلي زمن الناس اللي في الدور السادس؟!