راهنت مصر منذ عهد محمد علي علي التحديث وبناء دولة عصرية تأخذ بأسباب الرقي والتقدم واستطاعت تحت حكم هذا الرجل الأمي أن تفعل الكثير والكثير وأن تتبوأ مكانتها كقوة إقليمية ناهضة في جميع المجالات، وفي عهده وعهود خلفائه أصبحنا ملوك القطن في العالم وكنا ثاني دولة في العالم نملك شبكة للسكك الحديدية بعد بريطانيا العظمي وكذلك ثاني دولة تعرف فن السينما متقدمة في منطقة كانت تعج بالجهل وتحرم كل شيء وأي شيء. لكن مصر بحضارتها العريقة والحديثة قادت التنوير في المنطقة المظلمة ونشرت الثقافة والتعليم والتحديث في المنطقة طوال القرنين التاسع عشر والعشرين. بل وانفردت مصر في هذه العصور بكونها مقصداً سياحياً عالمياً تجذب المزيد والمزيد من السياح الذين بهرتهم كنوز مصر الثقافية والتاريخية وعراقة حضارتها. كنا ملوك القطن وفقدناه.. كنا ملوك السينما وفقدناها.. كنا من أوائل من عرف السياحة وها نحن نفقدها أو نتجمد عند رقم 8 ملايين منذ ثلاث سنوات ولا نعرف كيف نحركها إلي الأمام.. كنا ملوك الثقافة نتباري مع فرنسا في إصدار الكتب والنظريات الفلسفية والفن التشكيلي والموسيقي وها نحن نتراجع إلي الخلف بقوة جذب هائلة نحو الجهل والتخلف وها نحن ننقسم شيعاً مرة أخري بين طبقة غنية لديها الفرصة للتعامل مع التقدم والعلم تستغل كل ما تقع يدها عليه وبين طبقة فقيرة لم تحصل علي أي شيء سوي الثعبان الأقرع والجلابيب القصيرة والتشدق بالدين وهي في الواقع تتحلل من عفن الفقر والجهل والمرض.. إلي أين المصير؟! وانجراراً إلي مزيد من التردي جاءت الضجة المفتعلة ضد رأي شخصي من الفنان الوزير فاروق حسني حول الحجاب لتؤكد ملامح الديكتاتورية الفكرية والجمود والتعسف ومصادرة الرأي وحرية التعبير ولا أعرف لماذا إذن نغضب عندما يصادر رأي ويحول الصحفيون إلي المحاكم. إن الإرهاب الفكري الذي تعرض له الفنان فاروق حسني هو في الواقع رسالة لكل من تسول له نفسه التفكير في رأي والدفاع عنه وهذا الإرهاب الفكري أشد وأعتي من الإرهاب الدموي وهو يعيد تأكيد أن المتشددين لا يستطيعون الدفاع عن مبادئهم بروح وتعاليم الديمقراطية وأن طريقهم دائما بين الإرهاب الدموي والإرهاب الفكري. وقد فقدنا كثيرا عندما تخلينا عن مبادئنا التي عشنا عليها سبعة آلاف عام. لم نكن أمة تعرف العنف أو التشدد أو الإرهاب. كنا أمة وسطاً تدافع عن مبادئها وقيمها ودينها بالموعظة الحسنة وليس بالكرباج والمسدس والإرهاب الفكري.. ولذا لم يكن موفقا علي الإطلاق المذيع "معتز الدمرداش" في حواره مع الفنان فاروق حسني. فقد بدا غير موضوعي، يكرر الأسئلة باستفزاز فبدا منحازا لوجهة نظر ضد الأخري وهذه ليست الموضوعية المطلوبة من المذيعين! فقدنا ونفقد الكثير عندما نتخلي عن ابداء الرأي والتصميم عليه خوفا من الطرف الآخر.. والجدال القائم الآن إيجابيته الوحيدة ان الفنان المثقف فاروق حسني دافع عن رأيه ضد المتشددين وأصر عليه، وأفشل محاولة استغلال رأيه الشخصي وتحويله إلي قضية سياسية حاول المتشددون جره إليها. ويبقي للفنان الشجاع أنه تصدي لهذا الفكر المتخلف وأعطي درسا قاسيا لكل صاحب رأي لا يدافع عنه. أما الدرس المستفاد من كل ما حاول المتشددون إثارته وربما الرسالة التي اجتهدوا لتوصيلها إلينا فهي أنهم لم يتغيروا حتي بعد أن حملتهم رياح الديموقراطية إلي كراسي البرلمان، وأن الخلاف معهم في الرأي يفسد بيننا وبينهم كل قضية.. وإلا فماذا يريد هؤلاء بهذا مثلاً؟!