السفير الامريكي بالقاهرة ريتشارد دوني حضر للعام الثاني علي التوالي مولد السيد البدوي في مدينة طنطا، وظهر خلال جولاته التي اصر علي ان تكون مشيا علي الاقدام، شغوفا بالموالد، بل ومن المريدين للشيخ العارف بالله السيد البدوي وللطرق التابعة له. وقد شعرت بالصدمة في البداية وانا اتابع تفاعله مع فرق المتصوفة خاصة مع الطريقة الجازولية فقد كان حريصا علي زيارة خيمتهم، وعندما دخلها، وكان في صحبة محافظ الغربية تركه يجلس علي الكرسي وخلع حذاءه وانضم لافراد الطريقة وهم ينشدون وشعرت انه انسجم معهم لدرجة يحاول معها ان يتمتم مثلهم بما ينشدونه من ذكر.. وهو عارف باللغة العربية جيدا. وقد اثيرت العديد من التساؤلات: هل السفير الامريكي مسلم؟ كيف يحضر حلقات الذكر ويندمج مع الناس البسطاء وينشد معهم الاذكار اذا كان من غير ملة الاسلام؟ ثم لماذا ذلك الشغف بحركات التصوف، وذلك الحرص علي زيارة مولد السيد البدوي مرات عديدة؟ والحقيقة اني لا اهتم بالاجابة علي تلك الاسئلة كثيرا لكن مشهد السفير الامريكي وهو يتجول بين اهالي طنطا وضيوفها، وفي خيم الذكر التي اقامتها الطرق الصوفية اكثر ما شدني بل واستفزني بشدة، ولم استطع ان افصل الجانب المهني، عن الجانب الانساني فكونه سفير اعظم واكبر دولة في العالم فرض نفسه علي الجوانب الإنسانية، قد يكون من حقه كأي إنسان عادي ان يمارس تلك الطقوس التي يحبها ويتعلق بها، لكن مهمته الدبلوماسية تلقي بظلالها علي تحركاته.. فكيف يمكن لي ان اغفل انه سفير امريكا ذلك الذي يصافح الناس ويتوقف يتحدث اليهم في حميمية؟! ولم استطع ان اتأمل هذا المشهد واصمت وفقط، بل سألت ريتشارد دوني ما الذي يجعلني اصدقه، وكيف اقتنع بمشاعره الحميمية تجاه الشعب المصري، وأهالي الغربية وضيوفها البسطاء، ودولته - أي أمريكا - تساند اسرائيل التي تضرب المدنيين وتقتل الاطفال وتدك مدارسهم فوق رؤوسهم في بيت حانون؟! السفير أعادني الي سنوات الثمانينيات عندما كان يعمل دبلوماسيا في السفارة الامريكية بمصر وكيف تعلق بمولد السيد البدوي وقام بمساعدة صديقة له علي عمل فيلم وثائقي عن المولد والطرق الصوفية.. وحاول ان يقنعني بانه مجرد انسان عادي يتفاعل مع الناس ويشعر انهم طيبون ولا يعتقد ان هناك فروقا بين المواطن المصري والامريكي فبعيدا عن الافكار المسبقة والدعايات الوسيطة التي تلعب في الاعلام، فان الاثنين جوهرهما جيد وتغلب عليهما الطيبة والميل للسلام. ولا اخفيكم اني كدت ان أتأثر بكلام ريتشارد دوني.. بل ان احد الزملاء الصحفيين من جريدة حزبية قال له اننا "نحبك" كسفير امريكي، ولكننا لا نحب دولتك، التي تساند المجرمين في اسرائيل، كما اننا لا نحب رئيسك وفريق عصابته الذين احتلوا العراق.. بالفعل شعرت ان الرسالة التي جاء من اجلها ريتشارد دوني نجحت علي تلك الصورة التي اصبح الصحفي يفرق بين السفير ودولته، وبين مشاعر الحب التي يكنها للسفير ومشاعر مضادة يكنها لدولته! قلت اني كدت ان اصدق.. واقتنع لولا اني تساءلت: اذا كان السفير الامريكي يعشق السيد البدوي، ومشاعر السلام والحب الروحاني التي يجدها في الفرق المتصوفة، فلماذا إذن جاء الي المولد، وقد جاءه من قبل ثماني مرات مثلما ذكر لنا، ومعه هذه الكوكبة من الصحفيين والاعلاميين، من قنوات فضائية، ووكالات انباء وجرائد ومجلات؟! أليست هذه دعاية يقوم بها وهو في غير مهمة رسمية ومصحوبا بأفراد أسرته؟! لقد تصفحت جدول أعماله خلال زيارته للغربية، فلم أجد شيئا يستحق الذكر بالنسبة للعلاقات الثنائية فهو لن يفتتح مشروعات.. أو أعطي قروضا هامة، أو... لكنه تفقد بضعة مشروعات متناهية الصغر تابعة للمعونة الامريكية، وربما لا تتطلب اكثر من سكرتير اول في السفارة يتفقدها. اما الشق البارز في الزيارة فهو المتعلق بالشغف والهواية.. مع المتصوفة والطريقة الجازولية.. وهذا قد يكون جانبا خاصا احترمه في شخصيته وسلوكياته، لولا انه اصطحب معه خلال استمتاعه بهذه الهواية عيون الكاميرا واكثر من 20 مخبرا صحفيا، بما فيهم قناة الجزيرة. والاخطر من ذلك.. حالة الاستنفار التي سببها للإدارة المحلية هناك.. فمن الواضح انه تم استدعاء فرق أمن من جميع المحافظات المجاورة حتي تساعد قوات الغربية علي الحفاظ علي امان هذه الشخصية المرموقة، وهو يمشي بين الناس في المولد! وقلبي مع القيادات الامنية والمحافظ الذين اعتقد انهم لم يناموا لساعات طويلة وعدة ايام حتي يرتبوا لهذه الزيارة. عاش الاستمتاع بالمولد، وعاشت الدعاية الأمريكية!!