اقتصاد نفسي عن تجربة شخصية أحكي فأقول إني بعد هزيمة يونية 1967 كنت أبحث عن إزالة مرارة ما عشته شخصياً في تلك الحرب، فككل المصريين أعيش تحت وهم أننا نستطيع هزيمة إسرائيل في ساعات، ثم فوجئت بهول الكارثة. لم يكن هناك دواء لإعادة الاحساس بجدارة الحياة سوي ان أذوب حبا في رؤية ما يمكن ان أراه من لوحات وما اسمعه من موسيقي، فلا شيء بقادر علي إزالة الكروب من النفس قدر إعادة ترتيب الأعماق برؤية الفنون. ومازلت أذكر ما كان يقوله لي الفنان الكبير الراحل كمال خليفة، فهو الذي همس بصوت مبتسم ونحن في عيادة الطبيب النفسي الكبير د. فتحي لوزة الذي غادر عالمنا هذا الأسبوع، قال لي كمال خليفة "في مصر شعب سري يستمتع بالفنون ويقدرها، وليس الزحام علي محاولة رؤية العذراء في سماء حي حلمية الزيتون، سوي رؤية للوحة من صنع الخيال الجماعي ليؤكد المصريون لأنفسهم أن السماء لا تتخلي عنهم". لا أدري لماذا تذكرت ذلك وأنا أتحدث مع الفنان محسن شعلان الذي تولي قطاع الفنون التشكيلية أخيرا. وتفجرت تذكارات كمال خليفة، وأنا أسأل محسن شعلان عن نص التكليف الذي قاله له فاروق حسني لحظة ان ابلغه باختياره لرئاسة هذا القطاع، فقال لي محسن شعلان: قال لي فاروق حسني أريد منك ان تستعيد من ابتعدوا من الفنانين. والكلمة الموجزة التي نطق بها فاروق حسني، تعني ان الخمسة عشر عاما الماضية والتي قضاها د. أحمد نوار، انتجت الهيكل العام من البنية الاساسية للفنون المرئية من قاعات ومتاحف، والمناسبات، وهي بنية اساسية محترمة، ولكل عمل ضوء وعتمة، فالضوء الذي صدر من تجربة احمد نوار كان كثيفا، والعتمة تجلت في ان العديد من الفنانين كانوا يختلفون معه احيانا والعديد من الفنانين كانوا يتفقون معه احيانا، ولكن تبقي من التجربة أسس جلية واضحة تمثلت في البنية الاساسية، وهي التي شارك فيها أيضا الفنان محسن شعلان، حيث عمل لسنوات كمساعد ونائب لنوار، فأخذ منه، وأصبح عليه الآن ان يضيف وهو يتولي مسئولية القطاع المسئول عن إزالة صدأ العيون. ومحسن شعلان ليس مجرد موظف عام، ولكنه فنان خلاق يعلم كيف يلتقط اللحظة الراهنة ويهبها استمرارا مضيئا في الخيال، وهو يمارس هذا في رسم لوحاته. وأول استراتيجية وضعها محسن شعلان كان لها هدفان يخدم كل منهما الآخر، الهدف الأول هو إعادة تنظيم المناسبات المتعددة، ومطالبة الفنانين علي اختلاف اتجاهاتهم ان ينزلوا إلي ساحة المعارض الحكومية ويمكنهم ان يبيعوا إنتاجهم الفني دون سمسرة في هذه المعارض. وفي هذا تحريك لمجموع من يعرضون. فبدلا من ان يختص القطاع الخاص وحده بالبيع للفنانين بما يحمله بعض من أفراد هذا القطاع من أدران تزوير أعمال الفنانين، فهنا تتدخل الدولة لإعادة هيبة واحترام العمل الفني، بأن يباع في معارض الدولة ما يستحق الاقتناء دون تزوير أو نصب، وفي نفس الوقت يشجع محسن شعلان القطاع الخاص علي احترام الدقة والتعاون مع الدولة في عدم عرض إلا ما يستحق ان يعرض، فيرتقي الذوق. أجمل ما في محسن شعلان هو تواضعه الممتلئ باحترام كل الاتجاهات الفنية وبهذا التواضع الرفيع المستوي ستتحول معارض الفن التشكيلي إلي مناسبات لتخفيف كروب البشر، وهو ما سوف يجذب الجمهور المزدحمة أعماقه بكروب يحتاج فيها إلي من ينقذه منها.