بدأت كلمات وعبارات من نوع جديد تتردد كثيرا في الخطاب السياسي لقادة الصين، ففي مناسبات متتالية خلال شهر يناير الحالي استخدم الرئيس الصيني هيو جنتاو عبارات مثل التنمية المستدامة والمحافظة علي الموارد وإقامة مجتمع صديق للبيئة وكلمات مثل الابتكار وهي لغة جديدة لم تكن تتردد من قبل بهذه الكثافة في أحاديث المسئولين في الصين حيث كان أسلافهم يتحدثون عن نمو غير مقيد بأي قيد.. ولكن الرئيس جنتاو صار يدعو إلي تحول كمي في نمط التنمية الصيني معتبرا ذلك مهمة استراتيجية عاجلة. وتقول مجلة "نيوزويك" إن الصين حققت بالفعل معدلات نمو غير مسبوقة خلال الخمسة والعشرين سنة الأخيرة.. وأن بكين الاَن صارت بحاجة إلي النمو بطريقة مسئولة حيث تؤكد علي ضرورة حماية البيئة، وتحقيق كفاءة أكبر في استخدام الطاقة والاعتماد علي التكنولوجيا العالية.. ولا يحتاج المرء إلي ذكاء شديد لكي يدرك أن نمط النمو الصيني القديم القائم علي العمل الرخيص والاستثمار الكثيف لتحقيق معدلات نمو مكونة من رقمين لن يستمر إلي الأبد.. وتعتقد السلطات الصينية أنه بدون استراتيجية نمو جديدة فإن الصين سوف تعاني من التلوث البيئة الشديد ومن تفاوت في الدخول مثير لعدم الاستقرار ومن الاضطراب الاجتماعي.. والمسألة هي توقيت هذا التحول وهل يتم الاَن أم أن إتمامه الاَن سيفقد الصين ميزتها التنافسية التي جعلت الاقتصاد الصيني محط أنظار الناس في العالم كله. والحقيقة أن الصين دفعت ثمنا باهظا لنجاحها الاقتصادي.. فتقارير البنك الدولي تقول إن التلوث وغيره من مظاهر الدمار البيئي يكلف الصين سنويا ما بين 8 و12% من إجمالي ناتجها المحلي في صورة تكاليف زائدة للرعاية الطبية ودمار للمحاصيل الزراعية والمنتجات البحرية.. ويوجد في الصين الاَن 16 مدينة من بين 20 مدينة تعد الأكثر تلوثا في العالم كله، كذلك فإن أكثر من 60% من أنهار وبحيرات الصين صارت ملوثة بالكيماويات والمخلفات الصناعية والتسربات السامة التي تصل أحيانا حتي إلي مياه الشرب. وأكثر من ذلك فإن الأرض القابلة للزراعة في الصين صارت أكثر ندرة حيث تأكلها باستمرار التوسعات في بناء المساكن، وبرغم فقر الصين في الطاقة فإنها تستخدم الكهرباء بإسراف مبالغ فيه حيث تستخدم الصين لإنتاج الوحدة من ناتجها المحلي كمية من الطاقة تعادل ثلاثة أضعاف ما تستخدمه الولاياتالمتحدة لإنتاج نفس الوحدة وتسعة أضعاف ما تستخدمه اليابان وفي ذات الوقت فقد تصاعد عدم الرضا والسخط في المناطق الريفية بسبب عمليات مصادرة الأراضي والتلوث وانخفاض الأجور حيث لا يتجاوز أجر العامل في الريف ثلث أجر العامل في المدينة.. ومنذ أيام اعترفت وزارة الأمن العام الصينية بأن حوادث الاضطراب الاجتماعي زادت بنسبة 6% في عام 2005. ويقول إكسيا يليانج أستاذ الاقتصاد في جامعة تسنجهوا إن الرجل العادي في الصين غير راض عن نتائج النمو الاقتصادي السريع ولذلك فكرت الحكومة في نمط اَخر يمكن وصفه بأنه نمط النمو الأخضر. ويري الخبراء الصينيون أن التحول إلي اقتصاد قائم علي الابتكار صار أمرا حيويا وأن ذلك يمكن أن يحدث عنذما يبلغ متوسط دخل الفرد من ألف إلي 3 اَلاف دولار سنويا وقد بلغ دخل الفرد في الصين إلي ألف دولار بالفعل عام 2003 لذلك فإن دعوة الرئيس جنتاو إلي جعل الابتكار كأساس للاقتصاد الصيني في الخمسة عشر عاما القادمة هي دعوة تأتي في موعدها ولكن ذلك يستلزم كما تقول مجلة "نيوزويك" زيادة إنفاق الصين علي الأبحاث والتطوير ففي عام 2004 أنفقت الصين علي الأبحاث العلمية والتطوير 1.23% من إجمالي الناتج المحلي في حين أن هذه النسبة في اليابان 3.3% وفي الولاياتالمتحدة 2.7% وذلك حسب أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ومن الواضح أن بكين لم تعد تضيع وقتا فهي ترفض مشروعات التشييد التي لا تتفق مع سلامة البيئة وتعمل علي اللجوء إلي مصادر الطاقة النظيفة فالحفاظ علي معدلات نمو مرتفعة يستلزم مضاعفة إنتاجها من الكهرباء ولذلك فهي تتجه إلي التوسع في الاعتماد علي الكهرباء النووية خلال الخمسة عشر عاما القادمة حيث تنوي إنفاق 185 مليار دولار علي مشروعات الطاقة النووية لكن تقلل من اعتمادها علي مصادر الطاقة التقليدية الملوثة للبيئة خاصة الفحم. بقي أن نقول إن عملية التحول في الاقتصاد الصيني العملاقة إلي هذا الاتجاه الجديد تعد من التحديات طويلة الأمد.. وهذه العملية قد تلقي بعض المقاومة من حكام الأقاليم وبعض المسئولين الذين اعتادوا علي نمط النمو القديم.. ويقول الخبراء إن الصين كلها الاَن أمام مفترق طرق أما مواصلة نمو النمو الاقتصادي السريع رديء النوعية وإما اللجوء إلي نمط نمو أبطأ ولكنه أجود ويبدو حتي الاَن أن القيادة الصينية عازمة علي الاختيار الثاني ولن تتراجع عنه بسهولة.