أبرزت العديد من الدراسات التي تم نشرها في السنوات الأخيرة طبيعة العلاقة بين ارتفاع أسعار البترول وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، الي ان وصفت الأبحاث الارتفاع الجنوني لاسعار البترول بمثابة صدمة نفطية أولي عام 1973 اثناء حرب أكتوبر ثم أعقبتها صدمة نفطية ثانية في أعقاب الثورة الإسلامية الايرانية عام 1979 وانعكست آثار هاتين الصدمتين علي نمو الاقتصاد العالمي في ذلك الوقت. وعندما ارتفعت أسعار البترول خلال عام 2004 الي مستويات قياسية (اكثر من 40 دولاراً للبرميل)، كان هناك تخوف يصل الي درجة الاعتقاد بان الاقتصاد العالمي سيتضرر من هذا الارتفاع، بحيث سيشهد تباطؤا في نموه، والذي بدوره يؤثر في الطلب علي البترول. الا ان الذي حدث هو العكس، اذ اصبحنا امام علاقة طردية حيث ارتفاع اسعار البترول وارتفاع معدلات نمو الاقتصاد العالمي. فقد شهد عام 2004 أعلي معدلات من النمو الاقتصادي في تاريخ العالم والذي وصل الي حدود 4%. وشهد الطلب علي البترول أعلي نمو له، اذ وصلت الزيادة في الطلب إلي حدود 2.8 مليون برميل يومياً. وفي العام التالي 2005، ارتفعت اسعار البترول مرة اخري لتصل الي حدود 70 دولاراً للبرميل في بعض الشهور، مما زاد الخوف من تأثير ذلك علي الاقتصاد العالمي. الا ان الاقتصاد العالمي لم يشهد اي تباطؤ يذكر، حيث سجل نمواً بلغ 2.7 % في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، و3.6%في الولاياتالمتحدة. كما ان الطلب علي البترول استمر في الارتفاع لتصل الزيادة في الطلب الي حدود 1.2 مليون برميل يومياً في عام 2005. وصدرت دراسات وتقارير كثيرة تناولت المرونة التي تجاوب بها الاقتصاد العالمي مع ما يعتبر صدمة ارتفاع أسعار البترول، وما تطرحه من تساؤل عما إذا كانت الأسعار قد فقدت تأثيرها المعهود علي الاقتصاد العالمي ونموه؟ وأجمعت هذه الدراسات، في معظمها، علي عدد من العوامل الرئيسية التي تميز العلاقة الحالية بين أسعار البترول ونمو الاقتصاد العالمي. كفاءة الاستخدام أولا: كفاءة استخدام الطاقة خصوصاً في الدول الصناعية الرئيسية. فالولاياتالمتحدة علي سبيل المثال، والتي تعتبر المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي، انخفض اعتمادها في السنوات الأخيرة علي البترول كمدخل رئيسي للطاقة عما هو الحال خلال ازمتي ارتفاع اسعار البترول في السبعينيات والثمانينيات. إذ تشير التقديرات الي ان الدول المتقدمة حالياً تستخدم نصف كمية البترول لكل دولار حقيقي من مجمل الناتج الوطني مقارنة بفترتي السبعينيات والثمانينيات، ترتب عنه انخفاض تأثير ازدياد اسعار البترول علي كل من النمو الاقتصادي ومعدل التضخم. وتشير الدراسات الي ان تباطؤ النمو الاقتصادي عند ارتفاع اسعار البترول ينتج عن تعطل مؤقت لرأس المال والثروة الإنتاجية من منشآت وموارد بشرية توظف لعمليات الإنتاج. وعندما يقل اعتماد الدول الصناعية الرئيسية علي البترول كعنصر في متطلبات عملية الانتاج، وينحصر استخدامه كمادة استهلاكية (مثل زيت الوقود وزيت التدفئة) فينحسر بالتالي اي يصبح اقل من المتوقع مدي تأثير ارتفاع الاسعار في اقتصاد تلك الدول. مستويات التضخم ثانياً: بينما تشير بعض الدراسات الي ان الارتفاع الكبير الذي حققته اسعار البترول مؤخراً يعتبر - في قيمته الحقيقية، اي بعد احتساب مستوي التضخم - اقل من المستوي الذي وصل اليه خلال فترة السبعينيات، تشكك دراسات اخري خاصة في ذلك عند مقارنة وصول الاسعار الي 70 دولاراً للبرميل (خلال شهر اغسطس 2005) مقارنة بقيمته الحقيقية التي وصل اليها خلال فترة السبعينيات. انخفاض قيمة الدولار ثالثاً: بالنسبة لاوروبا الغربية، والتي تعتبر من اهم المناطق المستهلكة للبترول (اكثر من 14 مليون برميل يومياً)، فلم تشهد الارتفاع نفسه الذي طرأ علي اسعار البترول مقارنة بمناطق اخري في العالم، وذلك نظراً لانخفاض قيمة الدولار بالنسبة لليورو خلال العامين الماضيين، ونظراً كذلك لأسعار المنتجات البترولية التي يدفعها المستهلك النهائي نتيجة للضرائب، والتي تصل في بعض الدول الي 70% من قيمة تلك المنتجات. نمو الطلب رابعاً: تجمع معظم الدراسات علي أن الارتفاع الحالي لاسعار البترول يتعلق بنمو الطلب عليه وليس بنقص في الإمدادات كما كان الحال خلال السبعينيات والثمانينيات، اذ هو نتيجة انتعاش الاقتصاد العالمي الذي غذي بدوره الزيادات الكبيرة في اسعار البترول والمنتجات الاولية، وأدي الي خلل في التوازن بين العرض والطلب العالميين علي البترول.فالطلب علي البترول من ناحية، الذي شهد مؤخراً ارتفاعاً غير مسبوق مرجعه الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده بعض الدول الآسيوية وابرزها الصين والهند، لعب دوراً مهماً في ارتفاع الطلب، خصوصاً في غياب وجود طاقة إنتاجية إضافية في الصناعة العالمية للبترول. اما العرض العالمي من المنتجات المكررة فله دوره هو الآخر. فهناك نقص في الطاقة التكريرية العالمية والذي ابرزه بشكل واضح اعصارا كاتارينا وريتا وما يترتب عنه من استمرار ارتفاع اسعار المنتجات البترولية، والذي من المحتمل ان يستغرق بعض الوقت حتي انفراج الازمة العالمية الحالية. كما ان بعض دول الانتاج الرئيسة، مثل ايران ونيجيريا وفنزويلا والعراق، فهي عرضة للعوامل الجيوسياسية او تشوبها بعض الاضطرابات السياسية. ولعل ما يضاعف من حدة الوضع كما تشير بعض الدراسات، ترويج انصار نظرية "ذروة الإنتاج" لفكرة نضوب الاحتياطي العالمي للبترول، وان مستوي الانتاج العالمي الحالي قد بلغ ذروته، خصوصاً في ظل انخفاض مستوي الاكتشافات الجديدة بما يتماشي مع الازدياد العالمي للطلب. لا شك في ان لاسعار البترول تأثيراً علي النمو الاقتصادي، الا ان هذا يختلف من اقتصاد لآخر ومن فترة زمنية الي اخري. ففي الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال، تشير التقارير الي وجود عاملين رئيسين حجبا السوق الامريكية عن التأثر الكلي والمباشر بارتفاع اسعار البترول وهما: السياسة الاقتصادية الامريكية، والعجز الخارجي. فالاقتصاد الامريكي يمر حالياً بفترة عجز مالي خارجي يمول القسم الاكبر منه من دول آسيا وخصوصاً الصين. اضافة الي ذلك، فان مستوي التضخم المتدني ساهم في ابقاء اسعار الفائدة منخفضة وشكل بالتالي فقاعة عقارية (ازدهار في اسعار العقارات) وضعت المستهلك الامريكي في منأي عن التأثر الكلي بأسعار البترول.