وكأن كثافة الجليد وبرودة الجو القارس الذي انخفضت درجته عن الصفر بحوالي عشر درجات مئوية، قد القت بصقيعها علي العلاقات التجارية المصرية الامريكية التي واجهت في المنتجع السويسري "دافوس" هذا العام شيئا من التجمد يحتاج لبعض الدفء لبث الحركة في اطرافه. لكن الخلاف الذي كشف عنه بيان لوزارة التجارة والصناعة المصرية صدر علي هامش لقاءات المنتدي الاقتصادي العالمي لم يكن في حقيقته بين مسئولي التجارة المصريين والامريكيين كما كان الوضع في السابق. فقد شهد الجانب الامريكي في محافل عديدة ان الحكومة قد قامت بجهد كبير وخطوات اصلاحية سريعة اهلت الاقتصاد المصري لبدء المفاوضات في الربع الاول من العام الحالي. وكانت خطوة اتفاق المناطق الصناعية المؤهلة "الكويز" تمهيدا رئيسيا في طريق تلك المفاوضات. الخلاف إذن لم يكن اقتصاديا هذه المرة بعد سنوات شكت فيها المؤسسات الدولية من انغلاق الاقتصاد المصري وعدم رغبته في المنافسة او التحرير او الاندماج في الاقتصاد العالمي. الخلاف هذه المرة تقدمه الملف السياسي أو بالاحري الاصلاح السياسي.. حيث اصر المسئولون الامريكيون علي ربطه - أو أي تقدم علي مساره - بالتطور في مسار مفاوضات التجارة الحرة وهو ما رفضته مصر باصرار شديد في اجتماعات دافوس، واصدرت بيانا واضحا بشأنه. وقد سألتني مذيعة في هيئة الإذاعة البريطانية فور إعلان الخبر عما اذا كان من مصلحة مصر رفض المطالب السياسية والتضحية باتفاق التجارة الحرة الذي سعت اليه مصر طويلا، خاصة وان المطالب تأتي في اطار الإصلاح السياسي. والسؤال يبدو منطقيا.. اما الاجابة فلها شقان، ففيما تبدو سياسة المشروطية سياسة مرفوضة سواء بالنسبة للتجارة الحرة او المعونة او غيرها، حيث ان لكل مساعدة هدف وميزة يحصل عليها الطرفان ولا يستأثر بها الطرف الممنوح. وإذا ما قبلت الحكومة ان تخضع لشروط اليوم - ولا نعرف إن كانت قد فعلت في السابق - فان قائمة الشروط المسبقة لن تنتهي بدءا من ادعاءات حماية الحريات الدينية انتهاء الي حقوق البهائيين والشواذ، وبالتالي فان رد الحكومة بالرفض جاء منطقيا خاصة ان قضية التجارة الحرة ليست قضية حياة أو موت، وان الادارة الامريكية - في حقيقة الامر تمنحها كثيرا بدون ضغوط لمن تشاء سواء في الاردن او المغرب او البحرين او بشروط مخفضة لا تقتضي "نموذجها الديمقراطي" الذي تدعي السعي لتطبيقه. ولا يعني ذلك انه من الصواب تنحية قضية الاصلاح السياسي جانبا وفصله التام - كما هو حادث - عن الاصلاح الاقتصادي. فالمصلحة الوطنية - وليس الشروط الامريكية - تقتضي ان نمضي قدما في ذلك الاصلاح بخطي اسرع وفي ذلك اختبار للحكومة من جانب، واختبار لمصداقية البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك وللحزب الوطني من جهة اخري. وهنا يصبح من الغريب ان نتمسك بحالة من "العند" بعدم التقدم في برنامج الاصلاح السياسي -الذي يتعرض لتلكؤ شديد- لمجرد ان بعضا من بنوده جاءت كشروط علي الاجندة الامريكية. فالاصلاح السياسي هو التزام قدمه الرئيس والحزب امام الشعب وليس امام الادارة الامريكية وأي تراجع فيه هو تراجع لهذا الالتزام يحاسب عليه الشعب والرأي العام قبل ان تحاسبنا عليه الادارة الامريكية. بقي ان أقول ان معظم المطالب التي تقدم بها المسئولون الامريكيون هي جزء من برنامج الاصلاح السياسي بالفعل ولا تخرج كثيرا عنه، بل ان كثيرا من بنوده هي امور منطقية ولا تحتاج تعديل للقوانين او القواعد وان كانت تحقق الكثير من المطالب للمجتمع المدني والمعارضة والمواطن. الرضوخ للشروط الامريكية امر مرفوض لا بخصوص معونة اقتصادية او عسكرية او اتفاق تجارة حرة، لكن دفع مسيرة الاصلاح السياسي هو شرط شعبي والتزام انتخابي لا يمكن التفريط فيه.. او التلكؤ في مساره بدعوي القنوات الشرعية. اما باقي حديث دافوس.. فتلك قصة أخري.