تشهد الساحة الاقتصادية العالمية في العصر الحالي تغيرات سريعة من حيث توزيع الهيمنة الاقتصادية بين مناطق العالم . فنري قوي جديدة تنطلق واخري تتراجع ليحل محلها اخري بينما نجد اقتصادات واعدة تخطف انظار العالم ليتابعها بدقة ويراقب تطور ادائها. فعلي سبيل المثال اذا نظرنا الي الاتحاد الاوروبي ككيان اقتصادي متحد سيكون هناك قوتين اقتصاديتين فقط تهيمنان علي العالم وهما الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي اللذان تقترب ارقام اجمالي عائدات الناتج المحلي لديهما. اما اذا اقتصر تقدير مصطلح "القوي الاقتصادية العظمي" علي دول منفردة نجد ان هذا التصنيف يتوسع الي أربعة كيانات اقتصادية بدلا من اثنين ليشمل الولاياتالمتحدةواليابان والمانيا والصين تلك الدولة الآسيوية التي انضمت بقوة وبسرعة غير متوقعة الي قائمة عمالقة الاقتصاد . عوامل التغير قبل نشأة الاتحاد الاوروبي كان الاقتصاد الامريكي الاقوي بلا منازع علي مستوي العالم . لكن بعد وقت قصير من الحرب العالمية الثانية اصيب الاوربيون بارتباك شديد دفعهم الي التفكير في وسيلة للتعاون مما يحول دون نشوب صراعات مستقبلية. وتفتق زهن وينستون تشيرشل حينئذ عن فكرة تكوين اتحاد مؤلف من دول اوروبا يمكنها من التعاون لتأمين مصالحها الاقتصادية والامنية علي المدي الطويل . ومنذ ذلك الوقت تأسس الاتحاد الاوروبي وازداد قوة ومتانة يوما بعد يوما ليصبح كيانا اقتصاديا متحداً يتعامل بعملة موحدة ويحكمه بنك مركزي واحد . وتوسع الاتحاد في 2004 ليشمل 25 دولة مما قفز باجمالي عائد الناتج المحلي الاوروبي ليتجاوز نظيره الامريكي بينما اتسع عدد سكان الاتحاد الي اكثر من 450 مليون نسمة. وبالوضع في الاعتبار الناتج المحلي وعدد السكان يضحي الاتحاد الاوروبي كيانا اقتصاديا متناميا ينافس بقوة الولاياتالمتحدة ويثير قلقها . اليابان وألمانيا وفيما يخص اليابان عمل اليابانيون بجد مشهود علي مدي الاعوام الماضية للتخلص من تداعيات الحرب العالمية الثانية . واثمرعملهم الدءوب هذا عن نفوذ مالي واقتصادي هائل لتصبح اليابان ثاني اكبر اقتصاد علي مستوي العالم . وينطبق نفس الوضع علي الالمان الذين بذلوا جهدا عظيما منذ اواخر الاربعينيات لاصلاح الدمار الذي لحق باقتصادهم في اعقاب الحرب ولم تذهب جهودهم سدي حيث توسع اقتصادهم بايقاع قوي وسريع ليصبح ثالث اكبر اقتصاد في العالم . الصين اما عن العملاق الجديد الذي فرض نفسه علي الساحة الاقتصادية مؤخرا وهو الصين فيتساءل الكثيرون عن سر هذا النجاح العظيم. ولعل اسباب صعود التنين الاصفر يعود معظمها الي عوامل سياسية اكثر منها اقتصادية. فنحن نتحدث هنا عن دولة شيوعية لم يحبطها التخطيط المركزي علي عكس المعروف عما تنطوي عليه الادارة المركزية من ركود اقتصادي وثروة ضعيفة وبيئة اقتصادية هشة تعجز عن التنافس او الابداع. الا انه في حالة الصين نجد نجاحاً فريدا لهذا التخطيط المركزي حيث ادركت الحكومة الصينية ان السبيل الوحيد لتوفير الغذاء لأكبر كثافة سكانية علي مستوي العالم دون الحاجة الي المعونات الخارجية لن يكون الا من خلال توليد ثروة داخلية . ونجحوا في ذلك من خلال ادراكهم ان عبئهم الاقتصادي الرئيسي المتمثل في الكثافة السكانية الهائلة يمكن ان يكون في الوقت نفسه القوة الدافعة للنماء الاقتصادي . فبدا المسئولون في النظر الي السكان علي انهم "المورد الطبيعي الاكبر" لتخليق محرك قوي للعجلة الاقتصادية. واستغلت الحكومة هذا المورد من خلال اطلاق العنان للشركات المحلية في بناء وتوسع اعمالهم دون قيود مما يساعد علي امتصاص الاعداد الضخمة من العاطلين من السكان وامدادهم بالاجور التي رغم ضآلتها ستسمح لهم بتوفير حاجاتهم الاساسية علي الاقل. ونتج ذلك عن قدرة انتاجية ضخمة وانتاج صناعي غزير اغرق الاسواق العالمية لدرجة اثارت مخاوف الاقتصاديين في الولاياتالمتحدة واوروبا بعد ان فاقت المنتجات الصينية قدرة نظيرتها الامريكية والاوروبية علي المنافسة وجذبت اليها المستهلك العالمي نظرا لرخص ثمنها . واصبح المنتج الصيني هو الصداع الاكبر في رأس الاقتصاديين والمصنعين الامريكين بعد عجزهم عن ردعه او منافسته. الهند من جهة اخري ترصد المراقبات الدقيقة لدائرة الاقتصاد العالمي قوة جديدة آخذة في الصعود في نفس الجانب من العالم الا وهي الهند . وحققت الهند طفرة اقتصادية هائلة بفضل توجه حكومتها نحو استثمار "بنيتها التحتية الفكرية" في تأسيس "مؤسسات التكنولوجيا الهندية" وهي جامعات تضم نخبة من ارقي العقول وتضع برامج تكنولوجية وعلمية قادرة بكفاءة علي التنافس مع برامج الجامعات الرئيسية علي مستوي العالم . ولا يلتحق بهذه المؤسسات الاكاديمية غير الافضل والاكثر ذكاء من الدارسين . والجدير بالذكر ان الدولة لا تسمح للاعتبارات السياسية في التدخل في هذا العزم لديها . فكفاءة المتقدمين هي - وهي فقط - التي تلحقهم في هذه المؤسسات . وتمتلك الهند في هذا الشأن نفس المحرك الاقتصادي لدي الصين وهي الكثافة السكانية حيث تضم الدولة ثاني اكبر عدد من السكان في العالم . وكان التطور التكنولوجي السريع هو كلمة السر وراء النجاح الباهر للاقتصاد الهندي . ونتجت ثورة تكنولوجيا الدوت كوم عن آلاف الاميال من كابلات الالياف البصرية المتجه معظمها الي الهند مما سمح للشركات الهندية بسهولة التعاون مع نظرائها الامريكيين . وفي الواقع كل المكاتب الخلفية للمؤسسات الامريكية الكبري تقع الآن في الهند . ومن جهة اخري استفادت الهند كثيرا من مشكلة تطوير نظام الحاسبات الآلية قبل بدء الالفية الجديدة للحيلولة دون كتابة التاريخ الجديد 1900 بدلا من 2000 نظرا لاعتماد معظم الحواسب خانتين للعام وعندما يصبح التاريخ منتصف ليل 31 ديسمبر سيتحول الرقم من ( 99 ) الي ( 00 ) وتبقي خانتي ال ( 19 ) كما هي . ولتحقيق هذا التحول الضخم في حواسب العالم اجمع تم الاحتياج الي آلاف المهندسين وكان العديد منهم من الهنود لجمعهم بين ميزتين هامتين هما انخفاض الاجر والكفاءة. ويري الخبراء ان رخص الايدي العاملة وتعليم العلوم والقدرة علي التنافس التكنولوجي هو الذي ساعد القوي الاقتصادية الجديدة علي الظهور والتقدم . فكل من الهند والصين تمكنتا في العشر سنوات الاخيرة من تحقيق طفرة قوية في التعليم خاصة في مجالي العلوم والتكنولوجيا . وتقدم الدولتين باستمرار أعداداً ضخمة من المهندسين والفنيين المتميزين وغيرهم من المتخصصين في العلوم المختلفة . علي الجانب الآخر لا نجد الولاياتالمتحدة تطور انظمتها التعليمية في مجال العلوم بنفس الايقاع مما يثير مخاوف الخبراء من بدء تخلفها عن هذه القوي الجديدة في هذا الشأن . وينصح الخبراء الولاياتالمتحدة بضرورة الانتباه الي التركيز علي تطوير التعليم في المجالات العلمية اذا كانت ترغب في الاحتفاظ بلقب "اكبر اقتصاد في العالم ".