لأول مرة في تاريخ الجامعة العربية الممتد حتي الآن لأكثر من 45 عاماً، يخطف الأمين العام للجامعة الأضواء من مجلس الجامعة، بل ومن قممها التي أصبحت دورية. وإذا قلنا إن عمرو موسي كان نجم الحركة العربية هذا العام، وليس الجامعة أو مجلسها أو قراراتها فاننا لن نكون قد تجاوزنا الحقيقة أو انحزنا إلي المنهج الاستثنائي الخاص بدور الفرد في التاريخ. وبينما مضت القمة العربية الدورية دون قرارات تذكر وأصدرت بيانها التقليدي الذي صيغت كلماته بعناية وأن كان مضمونه لا يختلف كثيراً عن بيانات سابقة، فإن الأمين العام للجامعة العربية كسر هذا الطوق وخرج علي الدائرة المفرغة وتحرك حركة مباركة خارج إطار تحركات الجامعة التقليدية وفتح أبواباً ونوافذ لم تغلق بعد، وساهم في إلقاء طوبة، بل وحجارة في الماء الراكد حين اقتحم الكثير من المشكلات الساخنة في المنطقة وقام بدور وبمجهود فردي يحسب له أو يحسب عليه في ثلاث قضايا رئيسية تتعلق بالعراق وسوريا ولبنان ومجلس التعاون الخليجي. لقد ظل عمرو موسي منذ أن ترك الخارجية المصرية وتولي منصب الأمين العام للجامعة وحتي بداية هذا العام أسير توليفة الجامعة العربية الرسمية، والتي هي جامعة حكومات وأنظمة، وأدرك مثلما تدرك الغالبية الغالبة للشعوب العربية أن النيران المشتعلة في الشرق الأوسط والعالم العربي لا تلقي من القمم الرسمية التي يحضرها الملوك والرؤساء والأمراء سوي بيانات عامة ومتكررة لا تغني ولا تسمن لأنها لابد وأن تحظي بموافقة الجميع والجميع دائماً غير متفق. وفي العراق، ومنذ الغزو الأمريكي 2003 وبيانات الجامعة وقممها ومجالسها الوزارية لا تتعدي التعبيرات التي صارت إكليشيها مكرراً في الحفاظ علي استقلال العراق ووحدة أراضيه ووحدة الصف الوطني دون إدانة صريحة للغزو أو حتي دون إشارة إلي المقاومة أو الإرهاب وذلك إرضاء الله وللشيطان معاً. ويبدو أن عمرو موسي قرر الخروج علي الخط، بعد صمت طويل وغياب أطول لدور الجامعة العربية، وأثناء الاستفتاء علي الدستور العراقي وبمبادرة منه طالب بأن ينص مشروع الدستور، علي أن العراق جزء من الأمة العربية تحديد لهويته، وثارت أيامها المناقشات والمداولات والمساجلات بين موسي وبعض السياسيين العراقيين وغير العراقيين وانتهت بكسب معلن لمبادرة موسي حيث جري تعديل المشروع وأدخل عليه مادة تقول إن العراق دولة مؤسسة للجامعة العربية، وهذا هو النص الذي وافق عليه الشعب العراقي في الاستفتاء علي الدستور. وفتح ذلك شهية الأمين العام الذي غرس كثيراً في الأروقة الدبلوماسية والسياسية في أن يخطو خطوة أخري أهم لكي يكون للجامعة العربية دورها في صياغة الأحداث في العراق، بدلاً من هذا الموقف الخائب والمائع والسلبي الذي جعل الجميع يتدخلون فيما يجري في العراق، فيما عدا الجامعة العربية. وقرر الأمين الطموح أن يزور العراق ويلتقي بجميع القوي السياسية هناك في محاولة لإجراء تصالح ووفاق وطني، وانقسم الرأي العام العربي حول هذه المبادرة، فمنهم خاصة القوميين من بعثون وناصريين من طلب من موسي عدم الذهاب إلي العراق لأن ذلك يعني اعترافاً من الجامعة العربية بالأوضاع القائمة هناك تحت الاحتلال الأمريكي، بينما رأت قوي كثيرة أخري أن عمرو موسي تأخر كثيراً وعليه تفعيل دور الجامعة في الأحداث الجارية في العراق بدلاً من الوقوف موقف المتفرج السلبي. وقام عمرو موسي برحلته التاريخية والناجحة والتقي بجميع الأحزاب والتجمعات السياسية والدينية والطائفية علي الساحة العراقية، ونجح في عقد المؤتمر التحضيري للوفاق الوطني العراقي في القاهرة في أواخر نوفمبر، وهو المؤتمر الذي حضرته كل القيادات السياسية والدينية في العراق، واتفق الحاضرون علي عقد مؤتمر الوفاق الوطني في مارس أو ابريل القادم. لكن النجاح الذي حققه عمرو موسي في العراق لم يستطع أن يحققه في الأزمة السورية اللبنانية التي اشتعلت بعد مقتل الكاتب الصحفي جبران تويني رئيس تحرير جريدة النهار واتهام الأجهزة الأمنية السورية، وجاء اغتيال تويني ليزيد النار اشتعالاً بين سوريا والأغلبية المشكلة للحكومة وللبرلمان اللبناني خاصة أن هذا الاغتيال جاء في أعقاب تقرير ميليس الذي أتهم أجهزة الأمن السورية بوضوح بالمشاركة في التخطيط لاغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق. وقام موسي برحلة مكوكية بين دمشق وبيروت علي أمل رأب الصدع والبحث عن صيغة لوقف تدهور العلاقات بين البلدين الجارين والشقيقين، ولكن ما كان ممكناً في العراق استعصي علي موسي في سوريا ولبنان. وبالرغم من أن أحداً لا يعرف بالضبط أركان وأبعاد مبادرة عمرو موسي، إلا أن الجانب اللبناني كشف جانباً منها حين أعلن وليد جنبلاط الزعيم اللبناني المعارض لسوريا، أنه إذا كان موسي يريد من لبنان أن تغلق ملف الاغتيالات والتحقيقات منها مقابل أن تتوقف سوريا تماماً عن مثل هذه العمليات، فاننا لا نرحب بعمرو موسي وبمبادرته. مبادرة ثالثة قام بها الأمين العام قبل نهاية هذا العام وكانت لها ردود أفعالها الطيبة والغاضبة، وذلك أثناء اجتماع قمة دول التعاون الخليجي الأخيرة والتي طرحت علي جدول أعمالها مخاطر النشاط النووي الإيراني علي دول الخليج ومشروع قرار يجعل منطقة الخليج خالية من السلاح النووي. وألمح عمرو موسي في تصريح له إلي مخاطر ذلك القرار الذي يركز علي الخطر النووي الإيراني المحتمل ويتجاهل الحظر النووي الإسرائيلي القائم بالفعل، وطالب موسي بالتركيز علي جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي. وبالرغم من الملاسنة التي جرت بين العطية أمين عام القمة الخليجية وهجومه علي عمرو موسي تحت دعوي التدخل في شئون دول الخليج، إلا أن القرار النهائي الذي اتخذته القمة الخليجية كان في الواقع نصراً لعمرو موسي وتدخلاته. وهكذا يبرز دور عمرو موسي العربي خلال سنة 2005 كنجم من نجوم الحركة الفاعلة لمواجهة النيران المشتعلة، وتبقي احتمالات حول مستقبل عمرو موسي سنة 2006 إما أن يترشح منهجه الفاعل والموضوعي وإما أن يتهم بالخروج علي ميثاق الجامعة بمبادراته الفردية وبالتالي يجري تغييره بآخر أكثر انسجاماً مع أوضاع الأنظمة العربية الراكدة.