لم أصدق أن فيروز العظيمة صارت في السبعين من عمرها المديد! كنت قد قابلتها منذ أسابيع في بيروت وكانت في قمة حركتها ونشاطها وحلاوة قفشات ذهنها الحاضر دائما. وإذا سافرت إلي لبنان ولم أر فيروز فإن زيارتي منقوصة! وفيروز هي الشدو الجميل والصوت الأجمل. وهي رمز لبنان مثل العلم الذي يرفرف فوق هامات لبنان. وفيروز هي فاكهة بستان الغناء. وانتهز الفرصة لأوضح شيئا غاب عن بعض العقول الضيقة وهو اني احب للقمة أم كلثوم قصائدها أكثر من أغانيها التي يطلق عليها "الطاطيق". انا اعتقد - بكل رؤية متواضعة - ان أم كلثوم روجت للفصحي فقد اصبح رجل الشارع يدندن بالأطلال وبريم علي القاع! هذه عظمة أم كلثوم والسنباطي. ومع كل الجمال والروعة في غناء كوكب الشرق، فإن عشقي لصوت فيروز أكبر! إنه ذوق إنسان ولا يوجد ديكتاتورية في الصوت أو الذوق. لقد عشت فترة طويلة من حياتي لا أحب التفاح ولا أرغبه وأفضل عليه الكمثري الي أن بدأت رجيما صحيا قاسيا ونصحتني الطبيبة الماهرة مها راماديس بأهمية التفاح بالنسبة لي وبالفعل طبقت نصائحها وللدقة أوامرها وصار التفاح علي مائدتي! معني هذا أن ذوق الإنسان في أي شيء يتكون من الوجدان ومنذ سنين طويلة وعشق صوت فيروز يسكنني. فيروز التي وصلت سن السبعين، عمر النضج والاكتمال. فيروز التي مازالت تحتفظ بعافية صوتها وتلك النبرة الفيروزية الآخاذة في أدائها. فيروز التي يحزنها طوفان الفيديو كليب وتتساءل وهي ساخرة "أين أصوات المغنيين والمغنيات وسط ابهار الصورة والحسان" فيروز التي تحمل فوق كتفيها طقوس الغناء الجميل والأصيل. طقوس الاحترام في الوقوف علي المسرح لا تفتح فمها إلا إذا شدت ولا تتكلم مع السميعة من باب الظرف وخفة الدم. فيروز التي يذهب اليها جمهورها بالملابس الكاملة لا الكاجوال. فيروز التي لم تغادر بيروت خلال القصف في الحرب الأهلية والتصقت بتراب لبنان. فيروز التي ذهبت لتغني للبنانيين في كندا وامريكا وفرنسا لتعوضهم عن الشعور بالغربة بعد ان هربوا من جحيم النار الذي دمر لبنان. فيروز التي لها أدوار اجتماعية وانسانية لذوي الاحتياجات الخاصة لا تعلق عنها وتغضب اذا كتب احد عن هذا الدور. من يصدق أن فيروزتي صارت في السبعين؟ هل غافلنا الزمن وجري قطار العمر؟ ربما. ولكن فيروز عاشت احداث لبنان من أولها لآخرها. ولها رأي في كل حدث. ويوم مات الحريري بهذا الرحيل المفجع، اعتكفت في غرفة نومها وصمتت. احداث لبنان التي هزته.. جعلها تؤجل اعمالا فنية جديدة. وكنت أحلم بان تفاجئنا فيروز بغنائها للقصيدة التي لحنها السنباطي لها ولكن الخلافات مع اسرة السنباطي حرمتنا من شدوها العذب. فيروز، كانت تحب صوت عبدالحليم حافظ وكان حليم يحرص علي رؤيتها كلما سنحت له فرصة وفي احدي المرات اراد حليم ان يجامل فيروز، فغني لها "حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتا" فلما صفقت له، تشجع العندليب وغني "يا جارة الوادي".. ان كل مطرب او مطربة ليثبت لنا موهبته، يغني واحدة من أغاني فيروز. تسألوني لماذا كل هذا العشق لفيروز؟ انها "ناي" آدمي من لحم ودم يغني. انها تصالحني علي نفسي. انها عصر الشجن وفرحة العصافير واشراقة الدنيا. هكذا اراها ويري كثيرون بالملايين اعتبرهم فيروزيين حقيقيين. كان أحمد بهاء الدين يقول عن فيروز انها "المساحة الحقيقية لطاقة النور" كان الرسام بهجت عثمان يسميها "لؤلؤة الفن". ان حياة فيروز كامرأة، عاشتها بكل حلوها ومرها. وفيروز الام عاشت ملتزمة بأمومتها. وكان الفن - بالنسبة لها - الونس الحقيقي لها. فهي تغني وكأنها ترتل الصلوات. نهاد حداد أو فيروز، لم تصل إلي سن السبعين ولكنها في الحقيقة تعيش عمر الخامسة والثلاثين.. مرتين!