عرف المصريون لعصور طويلة بتعلقهم الشديد بالوطن، وخوفهم المفرط من الغربة وربما كان أسباب ذلك ترسب فكرة الخوف من الموت خارج مصر التي ورثناها من أجداد كانوا يعتبرون ان من يتوفي خارج البلاد لا تجري له مراسم التحنيط السليمة فتضيع عليه فرصة البعث والخلود ويحفل التاريخ المصري القديم بقصص توضح هذا الاصرار علي الدفن في الوطن لعل اشهرها قصة "سنوحي". ولأسباب نعلمها جميعا بدأ المصريون يتخلون تدريجيا عن هذا الخوف - أو لعلهم يتحايلون عليه - بعد تفشي حمي السفر للعمل في الخارج، وكان عقد العمل في بلدان الخليج العربي أملا يراود الكثيرين منذ السبعينيات، وشهدت قري مصر قصصا تسيل اللعاب عن أشخاص حققوا نقلات كيفية في أوضاعهم الاجتماعية بمجرد السفر سنة أو عدة سنوات قلائل حققوا فهيا ما يؤمن لهم ولأبنائهم حياة كريمة بعد العودة للوطن، لكن دوام الحال من المحال، فبعد الطفرة البترولية التي شهدتها بلدان الخليج منذ أواخر السبعينيات وبلغت ذروتها في الثمانينات، وأوجدت اعدادا مهولة من فرص العمل التي لا تستطيع العمالة المحلية توفيرها، بدأت عائدات النفط تتراجع، وانتشرت الدعوة إلي توطين الوظائف، وشكوي أهل البلاد أنفسهم من البطالة ومن مزاحمة المقيمين لهم في أرزاقهم، وهكذا اصبحت فرص السفر للخليج محدودة وقاصرة علي مؤهلات معينة، وكفاءات خاصة في أغلب الأحوال. ولأنني جربت بنفسي ولم يقل لي أحد، لمست كيف يشعر المصريون العاملون في الخارج (علي الأقل من فئة معارفي من الصحفيين) فبعد شهور من الاقامة في الدوحة اكتشفت مستوي الأجور الهزيل الذي يضطر لقبوله بعض الزملاء، لانعدام وجود فرص عمل تقريبا لهم هنا.. حتي أنك لا تكاد تجد في الصحافة القطرية صحفيين لبنانيين مثلا، فهؤلاء غالبا لن يقبلوا بمستوي الأجور التي يقبل بها شباب مصريون وسودانيون مثلا.. وبصرف النظر عن رواتب العاملين في قناة الجزيرة وقطاع البترول والبنوك.. تتراوح أغلب رواتب الجامعيين (مدرسين، محاسبين، مهندسين، أطباء) بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف ريال قطري.. فإذا أخذنا في الاعتبار ان الايجار الشهري لشقة متواضعة من غرفتين يبلغ أربعة آلاف ريال، مما دفع الكثير من العاملين إلي إعادة أسرهم للوطن، والسكني في سكن مشترك مع زملاء، بما يترتب علي ذلك من تشتيت للأسر، واضطرار بعض الزملاء الصحفيين للعمل كمدرسين خصوصيين بعد ساعات الدوام، لادركنا ان حلم العمل بالخليج لم يعد كما يقولون "يجيب همه". وإذا كنت أتحدث هنا عن الصحفيين فقد عرفت أيضا من صديق مصري مهندس حاصل علي الجنسية الكندية، كيف عرض عليه العمل في قطاع البترول في احدي دول الخليج بمرتب ضخم، ثم انخفض المرتب عندما عرفوا انه من أصل مصري.. وأصبح معروفا أن الاشقاء الخليجيين يضعون أولويات التوظيف في بلادهم علي النحو التالي: أولا المواطنون (وهذا بالطبع حقهم بعد انتشار التعليم في هذه البلدان وتخرج أعداد كبيرة بالذات من أصحاب المؤهلات المتوسطة الباحثين عن فرصة عمل هم أولي بها في بلادهم، مما جعل فرص استقدام حاصلين علي مؤهلات متوسطة منعدمة تقريبا)، وثانيا: العمالة الآسيوية رخيصة الثمن (في الأعمال الحرفية والشاقة التي لا يقبل عليها المواطنون).. وثالثا: الأمريكيون والأوروبيون (في التخصصات التي لا يوجد لشغلها مواطنون، ولا تحتاج لاستقدام عمالة أمريكية أو أوروبية). ومن هذا يتضح ان سوق العمل في الخليج آخذة في الانحسار أمام المصريين منذ التسعينيات، فهل وضعنا في حساباتنا ما الذي سيكون عليه الحال بعد سنوات قليلة؟ لقد أصبح الأشقاء يتخيرون افضل الكفاءات من عندنا لنؤسس لهم صروحا في مجالات عدة، ثم يتم الاستغناء عن هذه الكفاءات، بعد أن تقوم بدورها في تدريب كوادر من المواطنين، وهذا بالطبع حقهم.. فقد منحهم الله الأموال التي يستفيدون منها في تطوير مجتمعاتهم، كما منحنا الله هذه الكفاءات التي نفرط فيها بثمن بخس، فهل أصبح حالنا بالنسبة لما حبانا به الله من ثروة بشرية مبدعة ومتميزة، كمثل الأثرياء الذين يغترون بثرواتهم فيبددونها ذات اليمين وذات الشمال بغير حساب حتي يستقيظوا علي كارثة نفاذ هذه الثروات؟ أما آن الأوان للتفكير جديا في الاستفادة من هذه الثروة؟.