فتش عن المصلحة شن الإعلام العربي حملة ضارية علي زيارة رئيس حكومة جنوب السودان «سلفا كير» الخاطفة التي استمرت يوما واحدا إلي إسرائيل الأسبوع الماضي، وعززت هذه الزيارة من الشكوك التي ساورت كثيرين لديه حول مصرع الزعيم الجنوبي الدكتور «جون قرنق» قبل نحو ست سنوات، وبعد توقيع اتفاق نيفاشا للسلام بين شمال وجنوب السودان، في حادث طائرة غامض، لاسيما أن زيارة «كير» أفصحت عما كان غامضا في العلاقة بين قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، وإسرائيل، وعن الدور الإسرائيلي الذي اعترف به الجنرال الجنوبي في تسليح وتدريب أعضاء الحركة وتحقيق انفصال الجنوب وإقامته لدولة مستقلة، فقد كان معروفا منذ البداية الفروق بين قرنق ونائبه سلفاكير، فالأول ذو ميول وحدوية واضحة عبرت عن نفسها بتأكيداته التي تلت توقيع اتفاقية السلام عام 2005 بأن استفتاء جنوب السودان من أجل تقرير المصير، سوف ينتهي بالوحدة، بينما غلبت علي الثاني نزعات انفصالية عبرت عن نفسها بترويجه لخيار انفصال الجنوب عن الحكم المركزي في الخرطوم علي امتداد السنوات الست التي تلت توقيع اتفاق نيفاشا، وهي السنوات التي حددها الاتفاق ليجري بعدها الاستفتاء علي حق تقرير المصير للجنوبيين. ويعد سلفاكير أحد الجنرالات الأكثر تشددا داخل الحركة الشعبية وأكثرهم دعما داخل صفوف الحركة والجيش الشعبي للعناصر الانفصالية وغيبة «جون قرنق» السند الأكبر للعناصر الوحدوية، تبدو لكثيرين الآن غير بعيدة عن القصد. وفي غداء عمل مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، قال «سلفا كير» له «من دونكم ما كنا لنكون موجودين، قاتلتم معنا للسماح بإنشاء جمهورية جنوب السودان وبعد أن عبر عن امتنانه اعتبر دولة إسرائيل نموذجا يحتذي ومثالا للنجاح. النتائج التي أسفرت عنها الزيارة أن سفيرا لإسرائيل سيصل عاصمة جنوب السودان جوبا خلال أيام، وفقا لما أعلنه وزير الخارجية الإسرائيلي، وفي شهر يناير المقبل سيحل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضيفا علي الجنوب في سياق جولته الأفريقية، فضلا عن عدد من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية، وبحث قضية المهاجرين غير الشرعيين من جنوب السودان إلي إسرائيل، والذين طالب «كير» الحكومة الإسرائيلية بإعادتهم بعد تأهيلهم، بالإضافة إلي اتفاقات التعاون المشترك في مجالات التكنولوجيا والتنمية المائية والزراعية. لم يحرص «سلفا كير» أثناء الزيارة أن يعطي أي إشارات طمأنة للجانبين الفلسطيني والعربي، فقد حل ضيفا في القدسالغربية وليس تل أبيب، وعبر عن سعادته الغامرة لأن قدمه «وطأت أرض الميعاد» كما قال فيما يعد قبولا بالأساطير الإسرائيلية، كما قام بزيارة للمتحف الذي يخلد ذكري المحرقة اليهودية بمدينة القدس، ورفض كل نصائح أسديت إليه حتي من الجانب الإسرائيلي، بالإبقاء علي زيارته بعيدا عن الأضواء. المنطق الذي يسوقه قادة جنوب السودان لتوثيق علاقتهم بإسرائيل، لا يخلو من قوة، وفي مقدمته العلاقات العربية - الإسرائيلية التي تتمدد في التجارة والسياسة والاقتصاد والتي سبقت علاقتهم بها، من ناحية، ومن ناحية أخري، أن إسرائيل هي الدولة التي دعمتهم في كل الأوقات، بينما اكتفت الأطراف العربية بالتشكيك في نواياهم وولائهم، ولهذا السبب ولغيره، لم تصبح دولة جنوب السودان حتي اللحظة عضوا في الجامعة العربية، واكتفت بافتتاح مكتب للجامعة في جنوب العاصمة، كما أرسلت مؤخرا سفيرا لدولتهم في القاهرة، كما امتنع سفيرهم في هيئة الأممالمتحدة عن التصويت في الجمعية العامة، علي إقامة دولة فلسطين، بعد التصريحات الطائفية التي صدرت من قادة حماس ضد نشوء دولتهم، ووصفها بالدولة اللقيطة. إسرائيل كما هي العادة تسعي لتحقيق مصالحها، في محاولة لمنع تدفق المهاجرين الأفارقة إليها عبر الحدود المصرية وبينهم مهاجرون من جنوب السودان، كما هي تمد خيوطا لتحالفات جديدة في أفريقيا لمواجهة المد الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد الثورات العربية التي أطاحت عددا من الأنظمة الاستبدادية، ومن الطبيعي والمأمول أن تنظر الأطراف العربية إلي زيارة كير إلي إسرائيل في حدودها الضيقة التي لا تضر بالمصالح العربية لدي الدولة الوليدة التي سوف تحتفل بعد تأسيسها الثاني في التاسع من يناير المقبل وألا تبالغ في مغزاها ونتائجها، ومن الأفضل والضروري أن تسعي الإدارة المصرية للتنسيق التام مع الأطراف العربية التي تدفقت استثماراتها علي دولة الجنوب حتي يتم إنجاز تلك المشاريع بأيد عربية، بدلا من أن ينتهي الهجوم الضاري الذي يشنه الإعلام العربي علي زيارة سلفا كير إلي إسرائيل، بأن تستحوذ الأخيرة علي عمليات تنفيذ تلك المشاريع، في مسعي لزيادة الفرقة بين العرب والجنوبيين. فليذهب سلفا كير كما يشاء إلي إسرائيل، ولتبقي المصلحة هي المعيار الوحيد الذي يصوغ علاقتنا بدولة جنوب السودان الوليدة.