نحن باقون هنا كعادته منذ أن كان مرشدا عاما للإخوان المسلمين يواصل «محمد مهدي عاكف» تصريحاته المثيرة للجدل، والمعبرة مع ذلك عن التوجهات الحقيقية لحزب «الحرية والعدالة» الجناح السياسي للإخوان المسلمين، ففي حديث له مع جريدة اليوم السابع رد علي قول المحرر إن بعض الأقباط المصريين سوف يهاجرون إذا ما وصل الإسلاميون إلي الحكم، فقال: «مع السلامة اللي عايز يمشي ويسيب مصر مع السلامة يمشي ويسيبها» في حين رد الأب «يوحنا قلتة» علي السؤال نفسه من «معتز الدمرداش» قائلا إننا لن نترك بلادنا حتي ولو أدي الأمر إلي الاستشهاد علي أرضها فنحن لسنا جالية وافدة وإنما نحن مصريون من نسيج هذا الوطن. ويعرف الإسلاميون السياسيون بطرفيهما الإخواني والسلفي أن الخائفين من تحكمهم هم مسلمون ومسيحيون، وأن الذين يفكرون في الهجرة من البلاد ليسوا مسيحيين فقط بل هؤلاء الذين يشعرون أن الحريات العامة مهددة، وبخاصة حريات النساء والمسيحيين، ولا يفتأ المتحدثون باسم الإسلام السياسي يرددون أنهم أسقطوا وثيقة «السلمي» نسبة إلي الدكتور علي السلمي بعد أن اعترضوا بقوة علي المادة الأولي فيها التي تنص علي مدنية الدولة ومبدأ المواطنة، ويردد المتحدثون باسمهم أن من أول ما سوف يفعلونه في مجلس الشعب إذا حصلوا علي الأغلبية هو مراجعة القوانين التي تخالف الشريعة من وجهة نظرهم «فكل شيء في مصر مصدرة الدين والإسلام» كما يقول «مهدي عاكف». وعلي الذين يريدون أن يهاجروا من البلاد أن يصبروا ويثابروا مع كل القوي الديمقراطية والعقلانية في الدفاع عن الحقوق والحريات العامة، لأن صراع الأفكار والمصالح سرعان ما سوف يكشف للجماهير الواسعة التي صوتت للإسلام السياسي أنها تعرضت للخداع، وأن سببا رئيسيا من أسباب هذا التصويت الواسع - بالإضافة إلي ألاعيب وأموال الإخوان والسلفيين - هي تلك النفسية التي تشكلت لجماهير واسعة بالتعاون بين الاستبداد وقوي الإسلام السياسي رغم التناقض الظاهري، فأخذت الجماهير تخلط بين حقوقها المشروعة التي حرمها نظام القهر من الدفاع عنها بصورة جماعية ومنظمة وبين الصدقات وأشكال الإحسان التي يقدمها الإسلاميون للجماهير بديلا عن هذه الحقوق التي جري سلب المزيد منها عبر تخفيض الإنفاق العام للدولة طبقا لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذا فضلا عن أن تلبية حاجات الناس الأخلاقية والمعنوية والنفسانية والجمالية التي تؤكد المثل العليا للإنسانية وتعتبر الدين أحد مصادرها، قد جري العبث بها عن طريق الثقافة التجارية الاستهلاكية الهابطة من جهة، وصور التدين الشكلي والسطحي من جهة أخري، والتي انتشرت عبر المدرسة الدينية الوهابية المتزمتة المغلقة والشكلية حيث تناوب أكثر من عشرين مليون مصري علي العمل في السعودية بعد الطفرة النفطية من سنة 1973 إلي 2010 كما يخبرنا الدكتور سعدالدين إبراهيم. ولم تكن هجرة المصريين المؤقتة إلي الخليج مجرد بحث عن رزق أوفر، وإنما كانت أيضا هروبا من تردي الأحوال وانقلاب السياسة المصرية علي مثل التحرر والتقدم الناصرية، باسم الانفتاح الاقتصادي من جهة وامتلاك الولاياتالمتحدةالأمريكية من جهة أخري ل 99% من أوراق الحل من جهة أخري. وشيئا فشيئا في ظل الأزمة العامة وانهيار مستوي معيشة الطبقات الشعبية والوسطي وشحوب الأفكار التقدمية والليبرالية أمام المد السلفي والإخواني المرتبط وثيقا بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية لنظام الحكم في مصر، وتراجع دور الدولة الذي يتفق معه الإسلام السياسي كلية إذ يدعو إلي المزيد من الخصخصة فلا يوجد شيء اسمه «ملكية الدولة فنحن لسنا شيوعيين» كما يقول مهدي عاكف في حديثه.. شيئا فشيئا أخذ المصريون يشعرون أنهم عاجزون عن تدبير حياتهم والسيطرة علي مصائرهم، وهو شعور يسمح للذين يفتحون لهم أبواب الجنة علي حد زعمهم أن يسيطروا عليهم. ومع ذلك إذا كان صحيحا أن بعض المصريين يتدبرون أمورهم من أجل الهجرة فإن الملايين باقون هنا وسوف يأتي اليوم الذي يزول فيه الظلام فيصنعون مصائرهم بأيديهم وتنزاح الغمة.