قيل علي سبيل التندُّر إن الفضل يرجع إلي مبارك في إشعال الثورة الشعبية الراهنة المستمرة منذ 25 يناير 2011، ويمكن القول علي سبيل التندُّر أيضا إن المجلس العسكري، الذي اغتصب السلطة السياسية في مصر استنادا إلي شرعية الانقلاب العسكري وتنحية مبارك، يرجع إليه الفضل في إشعال الموجة الراهنة للثورة، منذ 19 نوفمبر 2011. والواقع الفعلي هو أن الجوع المفزع إلي المال والسلطة هو الذي دفع ويدفع كل الطبقات الرأسمالية والتابعة الحاكمة وسلطاتها السياسية في كل بلدان العالم إلي تجريف كل أساس لحياة حرة كريمة للبشر، الأمر الذي أشعل ويشعل حركات واسعة وعميقة معادية للرأسمالية من قبل الشعوب في مراكز الرأسمالية وفي مركزها الرئيسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بعد أن امتد إليها وألهمها تأثير الدومينو القادم من المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، أي العالم الثالث في الوقت الحاضر، ومن البلدان العربية علي وجه الخصوص. هنا في بلداننا العربية بالذات شهدنا ونشهد أقصي حالات الوحشية البربرية الضارية في قمع ثورات الربيع العربي كما يقال. وقد رأينا كيف تفجرت الموجة الراهنة للثورة المصرية كرد فعل ثوري (في زمن الثورة هذا) علي استخدام القوة المفرطة في قمع اعتصام صغير لأهالي شهداء الثورة ومصابيها في ميداشن التحرير، وكيف تطورت الاحتجاجات التي شملت كل محافظات مصر إلي موجة ثورية ضخمة وعميقة، وكيف كان المجلس العسكري ينتقل من غباء إلي غباء في تعامله مع الشعب في زمن لم يدرك فيه بعد أنه زمن ثورة شعبية كبري، وكيف استخدم الشرطة والجيش ونظم مذبحة راح ضحيتها عشرات الشهداء الجدد وأكثر من ألفين من الجرحي إلي الآن، وكيف يواجه شباب مصر ونساؤها ورجالها الشرطة والجيش ببسالة وعناد وبشعور بقمة الكرامة في مواجهة البطش الأعمي، وكيف ظهر المشير علي الشاشات فوق جثث الشهداء وفوق جراح المصابين وبعد مطالبات عنيدة من الشعب ليتَّهم الثوار ومجهولين بالمسئولية عن هذه التطورات لجرّ "ثورته" هو (أي انقلابه في الحقيقة) إلي الوراء، ولم يقدم شيئا، أو قدم أشياء تافهة، فوعد باحترام حق التظاهر والاعتصام "بما يتفق مع القانون" (وما زالت المذبحة مستمرة رغم الوعد الكاذب)، وتحدي الثورة بربط استعداد المجلس العسكري للرحيل باستفتاء يشرف عليه هذا المجلس ذاته (وكأن الاحتجاجات الواسعة الحالية والسابقة ضد المجلس العسكري ليست أقوي من كل استفتاء)، كما ألقي في وجه الثوار بقبول استقالة حكومة عصام شرف علي أن تقوم بتسيير أعمالها إلي حين تشكيل المجلس لحكومة جديدة، وتتواتر الأنباء عن احتمال استمرار حكومة عصام شرف خلال المرحلة الأولي للانتخابات الپرلمانية، وقال إن "المجلس الأعلي" قرر أن يتم إجراء الانتخابات في "توقيتاتها" كما قال، مع تقديم انتخابات رئاسة الجمهورية بحيث يقوم المجلس بتسليم السلطة للرئيس المنتخب "المنتظر" وعودته إلي ثكناته التي يتحرق شوقا إليها لحماية "أمن" مصر!!!! ومن الجلي أن المجلس لم ينتبه كعادته إلي أن هذه "الوعود" لا تُلبِّي مطالب وأهداف الثورة ولا مطالب وأهداف هذه الموجة من موجاتها! وسأحاول هنا أن أناقش أو أستعرض بمنتهي الإيجاز عددا من المطالب والأهداف الثورية: المطالب أولا: في عالم صارت فيه الانقلابات العسكرية مستنكرة ومرفوضة يستند المجلس العسكري إلي انقلابه العسكري كأساس لشرعيته المفروضة علي الشعب، وكان الهدف من الانقلاب ليس حماية الثورة التي لم تكن بحاجة إلي حماية بل حماية النظام وإعادة إنتاجه بنفس رجاله من العسكريين والمدنيين بعد التخلص من مبارك وأسرته وحلقة ضيقة من أقرب المقربين من رجاله، وقد أثبت المجلس العسكري بسياساته وإسترتيچياته وتكتيكاته طوال الشهور السابقة أنه يعمل بصورة ممنهجة علي تصفية الثورة، وبعد أن كان أبرز مطلب من مطالب ميدان التحرير (وكل ميادين التحرير في مصر) يقتصر قبل بيان المشير علي تحديد موعد لتسليم السلطة إلي المدنيين، صار بعده وبعد حنثه بعدد من وعوده بعدم احترام حق التظاهر والاعتصام واستمرار المجزرة، وباستمرار حكومة عصام شرف لفترة قد تمتد كما تتواتر أنباء، ... صار المطلب الحاسم الآن هو الرحيل الفوري للمجلس العسكري وتسليم الحكم للمدنيين. وتتعالي في ميدان التحرير اقتراحات بتكوين مجلس رئاسي انتقالي من أشخاص بعينهم يستلم السلطة من المجلس العسكري. ويبدو أن بعض الاقتراحات ترجِّح كفة الإسلاميين في المجلس الرئاسي الانتقالي المقترح الأمر الذي يعطيهم جائزة لا يستحقونها لثورة تآمروا ويتآمرون علي طول الخط ضدها في تعاون وثيق مع المجلس العسكري. وبهذا تفتح هذه الاقتراحات بابا واسعا لجمهورية إسلامية في مصر ولا اعتداد بحجة أن المجلس الرئاسي المقترح مؤقت لأنه في مثل هذه الأوضاع "لا يدوم إلا المؤقت". ونظرا لكل جرائم المجلس العسكري، ونظرا لأن الجيش ملك للشعب الذي ينفق عليه علي حساب لقمة عيشه ومسكنه وملبسه وصحته، يعتقد كاتب هذه السطور أن الموقف الأفضل هو المطالبة برحيل المجلس العسكري وحلِّه وتشكيل قيادة جديدة من ضباط وجنود الجيش المؤيدين بصدق للثورة، مع التحقيق مع المجلس العسكري المنحل ومحاكمته باعتباره المسئول الأول عن كل سياسات وممارسات الفترة السابقة بكل عناصرها بما فيها المذابح التي جري ارتكابها. وتكليف الجيش بالقيام بالمهام التي أوكلها الدستور إليه بالإضافة إلي مهام الشرطة إلي أن تتم إعادة بنائها؛ وعلي أن تُعتبر إقالة المجلس العسكري وما يترتب عليها شعارا دعائيا أو عمليا وفقا للتطور الفعلي للوضع الثوري ودون قفز عليه. ثانيا: إقالة حكومة عصام شرف علي الفور وتشكيل حكومة انتقالية جديدة بوصفها السلطة التنفيذية العليا التي تحلّ محل المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة كليهما. كما ينبغي محاسبة هذه الحكومة التي كانت بمثابة سكرتارية لهذا المجلس وكل الأجهزة التي ساعدتهما علي إعداد وممارسة سياسات الفترة السابقة. ثالثا: إلغاء قانون الطوارئ الاستبدادي الحالي وليس مجرد إلغاء العمل به، مع وضع قانون طوارئ بالمعايير الديمقراطية لمواجهة الكوارث التي تهدد الشعب وليس لأمن النظام الاستبدادي الفاسد. رابعا: حلّ وإعادة بناء مختلف أجهزة الأمن والمخابرات علي أسس ديمقراطية. خامسا: تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية وانتخاب مجلس تأسيسي لإعداد دستور جديد ديمقراطي حقا يقوم علي أساس الدولة المدنية، والمواطنة، وحرية العقيدة، والمساواة بين جميع المواطنين دون تمييز علي أساس الدين أو النوع أو العِرْق أو الإثنية أو اللغة، وكفالة كل الحريات والحقوق الديمقراطية بما فيها حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب وكل أشكال الاحتجاج دون قيود قانونية، وحقوق تكوين الأحزاب والنقابات العمالية والمهنية والجمعيات والروابط والاتحادات والتعاونيات دون قيود، وحرية التعبير، وحرية الصحافة والإعلام، وإعادة صياغة كل القوانين التي لا تتفق مع الدستور الجديد، وكل ذلك في إطار جمهورية پرلمانية ديمقراطية، وفي إطار فصل الدين عن الدولة، والتوازن الحقيقي بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. سادسا: إلغاء ما يسمي بمجلس الشوري باعتباره "اختراعا" ساداتيا بلا وظيفة أو سلطات حقيقية. سابعا: سرعة محاكمة مبارك وقرينته ونجليه وكل مَنْ تورط معهم من عائلاتهم وكل رجاله وكذلك الدائرة الأوسع ممن أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية في البلاد، مع سرعة إجراءات المحاكمة وتنفيذ الأحكام. ثامنا: العزل السياسي لقيادات الحزب الوطني الحزب الوطني والعزل النهائي، عن المناصب السياسية والإدارية للدولة وعن الحياة البرلمانية، ويشمل العزل لقياداته وكوادره علي كل المستويات في اللجنة المركزية ومكاتبها ولجان المحافظات واللجان المحلية عقابا علي دورهم في إفساد السياسة والإدارة الحكومية والاقتصاد والإعلام والتعليم والصحة وكل نواحي الحياة في البلاد، مع محاسبتهم قضائيا. دون أن يمتد هذا العزل إلي القاعدة الواسعة التي تصل إلي مليونين أو ثلاثة ملايين. تاسعا: وضع حدّين أدني وأقصي للأجور في البلاد بفارق لايتجاوز أضعافا محدَّدة قانونا مع ربط تطور الأجور بتطور الأسعار، في سياق رؤية شاملة للعدالة الاجتماعية تضع في صدارة التزاماتها القضاء علي الفقر في كل تجلياته في مجال دخل الطبقات العاملة والشعبية، وحقوقها في السكن بعيدا عن العشوائيات والمقابر وما أشبه، وحقوقها في مجال التأمين الصحي الشامل والفعال، وكل حقوقها في حياة كريمة وحرة. عاشرا: استقلال القضاء عن وزارة العدل والحكومة والدولة وإقرار وتحقيق المطالب العادلة للقضاة وتطهير القضاء بعد عقود من التبعية المفروضة التي حاربها القضاة الشرفاء بعناد وشجاعة وبسالة، مع إلغاء كل المحاكم الاستثنائية ومحاكمة المواطن أمام قاضيه الطبيعي. الحادي عشر: مصادرة وتأميم الأموال الثابتة والمنقولة الناشئة عن الخصخصة التي جرت بمعايير الفساد واللصوصية و"بتراب الفلوس" لممتلكات الدولة والقطاع العام، وإجبار مبارك وأسرته ورجاله وكل لصوص نظامه علي ردّ كل الأموال المنهوبة داخل مصر وخارجها، والعمل بكل الوسائل القانونية المشروعة علي استعادة تلك الأموال من سويسرا وغيرها من الدول المعنية.