تعددت المجالات الإبداعية التي ارتادها المبدع الراحل د. يسري خميس، ما بين الشعر والمسرح والترجمة والعمل الثقافي العام، وفي كل مجال من هذه المجالات المتنوعة أضاف وأبدع وقدم تجارب مغايرة اهتمت بالبعد الإنساني في التجربة الإبداعية، لذا نري هذه المجالات علي اختلافها وتنوعها يربطها خيط واحد متماسك هو البحث عن الجوهر الإنساني، ففي ترجماته - علي سبيل المثال - نجد انحيازه للمسرح الداعي للحرية والمواجهة من خلال تجارب «بيتر فايس» و«بريخت» و«دورنيمات» و«فالك ريشتر»، وهي التجارب التي تكشف عمق المأساة الإنسانية في ظل الهيمنة وتجبر السلطات، وتكشف أيضا - في جانبها المضيء - عن أفق حتمي للخلاص البشري. كذلك يبرز هذا الجانب في ترجماته للشعر ومنها ترجماته لبيفر زجراجين وجونتر آيش وبرتولت بريخت وإريش فريد صاحب المجموعة الشعرية «أشعار ضد إسرائيل» وهي مجموعة رائعة - رغم لغتها المباشرة - إلا أن خطابها الشعري المناهض للعنصرية الصهيونية والمتعاطف مع القضية الفلسطينية، أعطي للغتها الشعرية فضاءات أخري. ورغم تميزه كمترجم قدير لكنه كان يعتز بتجربته الشعرية مؤكدا أن الشعر هو اللبنة الأولي لأي إبداع، وقد نشرت له خمس مجموعات شعرية هي: «قبل سقوط الأمطار» 1984 و«التمساح والوردة» 1993، و«طريق الحرير» 2002، و«أساطير مائية» 2003، و«ممر الأفيال» 2010. الحضور الإنساني وفي هذه المجموعات وغيرها من الأشعار التي لم تنشر بعد نري سمة رئيسية تغلف تلك التجربة وهي «الحضور الإنساني» سواء كان هذا الحضور تاريخيا أو ذاتيا أو حتي مكانيا، وربما هذا ما نراه جليا في مقاطع قصيدته «دمشقيات» من ديوان «ممر الأفيال»، وهي القصيدة التي يصف فيها دمشق لا باعتبارها مكانا بل استحضارا لكيانها الإنساني وأطيافها الروحية: أحببت فيك دمشق فاتنتي التي قد عانقتني قبل أن تعرفني فتحت ذراعيها القمر انشق نصفين وقال لي: هذا التراب فوق حاجبيك أعرفه يا المرهق القادم من شراقي الدلتا مارا ببغداد طوال الليل في الصحراء حتي درعا تحصي النجوم مدت ذراعيها وقالت: اركب اركب علي شق القمر ركبت طارت بي إلي ذري لم تر عيني مثلها الحكاية الشعرية أما السمة الثانية في تجربة يسري خميس الشعرية فهي اعتماده علي «الحكاية الشعرية» المعتمدة علي الوصف، عبر صور متلاحقة، عنقودية التكوين، متضافرة مع أسئلة تومئ بالإجابات، المتطلعة إلي الحرية - دائما - وهذا ما نراه بصورة واضحة في قصيدة «البحث عن قاسم» وهو شاب عراقي يحلم بوطن لا يلاحقه الخراب: تري أين أنت الآن يا قاسم؟ أية ريح طيبة أرسلتك إلي هذا الصباح كيف حالك؟ وكيف حال أمك؟ والبستان؟ ذلك الشاب الوسيم ذو الشعر الأسحم والعيون الأبنوسية يوم أن جاء يودعني ليلة مغادرتي العراق وفي يده سلة ممتلئة بالخبز البغدادي الساخن والأحاجي المقطوع توا من البستان سألته: ما هذا يا قاسم؟! أخبرني بأن أمه أصرت علي أن آخذها معي زادا للسفرة الطويلة والغربة في البلاد الأجنبية وفي ديوانه «الأخير» الذي لم يطبع بعد «أيام الكلاب» نجد ذلك الصوت الهامس والمتأمل والمتحصن بصوفية اللغة وكثافة المعني، وتشابك الدلالات، حيث يتقطر الشعر تقطيرا، وكأنه حكمة مصفاة حيث: الحياة كثافة لا تقاس بطول وعرض الحياة علي السطح - لا لزوم لها - دون معني! وحيث: «ضاع الكثير ولم يبق غير القليل»