الاتحاد السوفييتي وربيع الثورات العربية ! ما ان بدأ شهر سبتمبر الحالي حتي تدفقت في الصحافة العالمية - وكذلك في الصحافة العربية - امواج متلاحقة من الصعب، بل لا يمكن، ملاحقتها ومتابعتها من التعليقات والتحليلات والكتابات من كل نوع وتوجه عن الذكري العاشرة لاحداث 11 سبتمبر الارهابية التي ضربت نيويورك وواشنطن. هذه الكتابات تتدفق بعضها يحمل دروسا قيمة لأمريكا بشان حربها العالمية علي الارهاب وبعضها يحمل دروسا قيمة للارهابيين اسلاميين وغير اسلاميين، متطرفين يمينيين من كل اتجاه ديني او غير ديني، ولكن اغلبها يكرر افكارا قديمة ترددت اثر هذه الحوادث قبل عشر سنوات. فجأة تذكرت ان الذكري العاشرة لهذه الاحداث التي لا يمكن انكار خطورتها - سواء في مقدماتها او نتائجها وهي -ايضا - الذكري العشرون لسقوط الاتحاد السوفييتي او تفككه. من المؤكد انه لا علاقة بين الحدثين اللذين تفصل بينهما فترة عشر سنوات. انما سبب هذا الربط الزمني هو ان ذكري انهيار الاتحاد السوفييتي ليست اقل جدارة بالتحليل والتعليق من احداث 11 سبتمبر 2001. لماذا سقط الاتحاد السوفييتي؟ هل كانت الاسباب داخلية او خارجية او انها كانت مزيجا من هذه وتلك؟ بل الاهم من ذلك اهمية رؤية الوضع العالمي لو ان الاتحاد السوفييتي كان لا يزال قائما، علي طريقة ماذا كان يمكن ان يكون الوضع العالمي لو لم يقع الهجوم الارهابي ولو لم تتورط الولاياتالمتحدة في حروب افغانستان والعراق وباكستان. علي وجه التحديد دار برأسي السؤال: ماذا كان يمكن ان يكون الحال - اقليميا وعالميا لو ان "ربيع الثورات العربية" جاء في وقت كان الاتحاد السوفييتي فيه لا يزال قائما. وقد برر هذا السؤال في تصوري اقتناع بصحة الاجماع - او ما يشبه الاجماع - علي ان الاسباب الجوهرية لانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي كانت تحيط به كانت اسبابا تتعلق بسياساته الداخلية - سياسات السلطة وعلاقتها بالجماهير والسياسات الاقتصادية والتعليمية - ولم تتعلق كثيرا بسياساته الخارجية. علي الرغم من ان الفصل التام بين السياسات الداخلية والخارجية لبلد له حجم ودور الاتحاد السوفييتي، الذي كان، هو فصل تعسفي او علي الاقل غير منطقي. فقد اسرف القادة "الاشتراكيون" الذين كانوا يملكون سلطات صنع القرار في التضحية بكثير من اهداف السياسات الداخلية من اجل تثبيت وتقوية السياسات الخارجية. وقد تبين بشكل جلي ان السوفييت ضحوا بالكثير من اهداف سياساتهم الداخلية التي كان من الضروري ان ترتفع بمستويات المعيشة في بلادهم من اجل مساعدة السياسات الخارجية علي مساندة بلدان العالم الثالث علي مواجهة القوي الامبريالية وسياساتها الاستغلالية والتوسعية. ولا ننسي في هذا المجال ما بذله السوفييت من تضحيات لتحقيق قوة عسكرية قادرة في عالم المواجهة مع الغرب. علي مدي نحو سبعين عاما عاشها النظام السوفييتي لم تتغير كثيرا ملامح سياساته الخارجية، خاصة تلك المتعلقة بمواقفه من حركات التحرر والدول التي تحررت وارادت ان تحافظ علي حريتها في مواجهة العالم الغربي واحلافه ومؤسساته الاقتصادية العملاقة. الدولة الاعظم نعم لقد شغل النظام السوفييتي بالصراع الايديولوجي مع الصين كما شغل بالدفاع عن وجود واستمرار كوبا الاشتراكية علي بعد اقل من مائة ميل من حدود الدولة الاعظم الاخري الولاياتالمتحدة. كما شغل بهبات داخلية كادت ان تهدد النظام الاشتراكي، كتلك التي حدثت في المجر ثم في تشيكوسلوفاكيا ...لكن هذه التطورات لم تغير مسار السياسة الخارجية السوفييتية كثيرا. من هنا ينبع سؤالنا الافتراضي كيف كان يمكن ان يكون الحال لو ان ثورات الربيع العربي التي تفجرت قريبا من بلاد السوفيات وقريبا من مصالح الطاقة الغربية البعيدة لو ان احداثها وقعت في وجود الاتحاد السوفييتي، قبل سقوطه او دون ان يحدث هذا السقوط. الصراع الكتلتين لا شك ان ما يثير هذا السؤال اكثر من اي عامل آخر هو الخطورة الشديدة التي ينطوي عليها تدخل الغرب ممثلا في حلف الاطلنطي في ليبيا تدخلا عسكريا مباشرا وما هو مثار عن احتمالات تدخلات مماثلة ربما في سوريا وربما ايضا في اليمن، بالاضافة الي اشكال التدخل غير العسكري - او لعل الاصح والاكثر تعبيرا ان نقول التدخل غير المسلح وغير العنيف - في بلدان اخري شهدت ثورة علي الاوضاع الداخلية والخارجية فيها. هذا فضلا عن احتمالات تدخل في بلدان مرشحة لثورات مماثلة، اما للحيلولة دون تفجر الثورة فيها او بهدف "مساعدتها" علي غرار مساعدة الحلف الغربي لليبيا. ومن المؤكد ان مثل هذا التدخل ما كان ليحدث لو ان هذه الثورات العربية وقعت - افتراضيا - في ظل وجود "الصراع بين الكتلتين"، اي في ظل وجود الاتحاد السوفييتي كقوة مناوئة او منافسة للقوة الغربية. ما كان من الممكن للغرب ان يتحرك بهذه الطلاقة العسكرية للتدخل هنا او هناك. بل ما كان من الممكن ان تلجأ عناصر من ثورة ليبيا - مثلا - الي طلب تدخل غربي لمساندتها مع وعود باطلاق حرية الغرب في استغلال بترول ليبيا. فقد كان التوازن العسكري بين "المعسكرين" كفيلا بلجم رغبة الغرب في الانقضاض علي بلدان ثورات الربيع العربي بلا خشية من القوة التي تقف في مواجهة هذه الرغبة. هل كان يمكن ان تؤدي ثورات الربيع العربي الي حرب عالمية بين هذين المعسكرين؟ ان احداثا اشد وطاة علي الغرب لم تؤد من قبل الي حرب عالمية بين المعسكرين. لا فيتنام ولا كوبا ولا ثورة مصر في عام 1952 ولا ثورة العراق في عام 1958 ولا ثورة ليبيا في عام 1969...الخ بل ان باستطاعتنا الزعم بان المناخ الدولي في ظل وجود النظام السوفييتي وسياساته الخارجية ما كان ليسمح للغرب بان يعزز وجوده العسكري وقواعده في منطقة البترول الشاسعة في الشرق الاوسط وهي قريبة للغاية من حدود هذا النظام الجغرافية والسياسية. قد يبدو من فرضيتنا انها اشبه ما تكون الي البكاء علي الاطلال. لكن لم يكن الغرض ابدا هو هذا. انما الغرض هو رؤية التطورات التي تجري فينا وحولنا في ضوء حقيقة اختلاف المصالح بين الدول المالكة لقدرات المواجهة العسكرية ... حتي تلك التي لا تختلف في نظامها الاقتصادي - السياسي عن الولاياتالمتحدة التي تتزعم عالم الرأسمالية وكأن لا مواجهة يمكن ان تكون بينها وبين الاخرين. تشكيل الاوضاع العالمية ان روسيا والصين لا تكادان تختلفان مع أمريكا في اليات ودوافع النظام السياسي - الاقتصادي السائد. ومع ذلك تبدو في سياساتهما علامات اختلاف واضح ورفض قاطع لسياسات الولاياتالمتحدة وحلف الاطلنطي تجاه ثورات الربيع العربي، كما تجاه مسائل اخري لا تقل اهمية .. ولا تقف روسيا والصين وحدهما هناك البرازيل والهند ومجموعة الدول اللاتينية التي اتجهت يسارا في السنوات الاخيرة وتتمكن من تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية لا شك فيها. هناك عالم جديد يتكشف ويكشف في تطوراته عن رفض حقيقي للتسليم للراسمالية الأمريكية - حتي من جانب اوروبا - بان تكون صاحبة الكلمة القصوي في مصير الوضع العالمي من خلال سيطرة لا منافس لها علي مصادر القوة والتقدم في العالم. ليس الاتحاد السوفييتي مرشحا للعودة الي روسيا او الي اوروبا الشرقية. لكن قوي عالمية لها وزن كبير في تشكيل الاوضاع العالمية مرشحة لمقاومة الهيمنة الأمريكية في العالم. بين هذه القوي المرشحة لوقف الهيمنة الأمريكية - بل في طليعتها - القوي التي تخلقها الان ثورات الربيع العربي.