انتشرت في دوائر الفكر الغربي منذ تسعينيات القرن الماضي فكرة أن الصدام الحضاري القادم بعد انهيار الكتلة الاشتراكية هو بين الغرب والأصولية الإسلامية ، وهي فكرة لا تصمد كثيرا أمام التحليل العلمي الدقيق والمشاهد اليومية المباشرة والقراءة المتأنية للواقع الحالي حيث تمتد جسور التعاون المشترك بين دول الأطلسي وأهم بلدان العالم الإسلامي تشددا. إن انتشار مثل هذه الفكرة التي أسسها صمويل هنتنجتون ودعمها داخل دوائر الحكم الغربية تلقفها بعض الأصوليين من الشرق والغرب علي السواء ولاقت استحسانا لدي هؤلاء الاقصائيين من الطرفين حتي يقطعوا أواصر التعاون والإخاء الإنساني ويسدوا الطريق أمام إمكانية أي تقدم علمي أو سياسي أو ثقافي بين الأمم. النزعة الاستعمارية كان الغرب بنزعته الاستعمارية بحاجة إلي عدو جديد يستمد منه قوة الوجود الاستعماري بنزعته العسكرية التي يصدرها للعالم للإبقاء علي جزء مهم في نظامه متعلقا بعسكرة الاقتصاد فاستبدل الهلال بالمنجل والمطرقة. في المقابل كان الإسلاميون تواقين لإحياء نزعة صليبية جديدة يعيدون بها إنتاج التاريخ ويؤججون من خلالها حالة صراع دائم مع الغرب وأعوانه الداخليين وخلق مناخ متوتر بين مقولات كلا الطرفين الثقافية والدينية والاستفادة من هذا المناخ الجديد فاستبدلوا هم أيضا تهمة العلمانية الكافرة التي وصموا بها الفكر الغربي بتهمة الإلحاد التي لصقوا بها الاشتراكية مع غض الطرف عن التوجهات الاقتصادية هنا أو هناك، تأكيداً لمفهومهم الوجودي عن الإنسان أنما خلق للعبادة فحسب وليس لإعمار الأرض وتدبر آيات الكون أيضا. إذن فالطرفان الغربي بوجهه الاستعماري، والإسلامي بشعبته الأصولية حاولا تهيئة المناخ السياسي والثقافي والديني لزرع شتلات جديدة من العداء وخلق دورة حياة للتطرف المتبادل لأهداف اقتصادية لدي الغرب ودينية لدي الشرق، هذه المصلحة المتبادلة جاءت بالأساس علي حساب الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً في بلداننا المتطلعة إلي تنمية اقتصادية وتقدم اجتماعي وتطور فكري وثقافي ونهضة سياسية تسهم جميعها في تطوير الحياة الإنسانية، وحرص الطرفان الغربي والأصولي الإسلامي علي أن يبقي الفرد المسلم هائما في حالة السكون ،بعيدا عن انجازات العصر، عائشا في القرن السادس عشر وفي غياب حقيقي عن الحياة. استطاع الأصوليون تجفيف منابع المعرفة النقدية والتحرر والمساواة وقدموا خطابا دينيا وثقافيا رجعيا بامتياز قتلوا به الإبداع لدي كثير من فئات الشعوب العربية وجمدوها في حدود ضيقة وممرات عسيرة علي الحركة وأوقفت حركة العقل وشككت في قيم العقلانية ،فصار الفرد المسلم في حاجة دائمة إلي شيخ بجواره يوجهه كيف ينام ومتي يصحو ، كيف يأكل ومتي يجوب الأسواق ، كيف يأتي زوجته ومتي يهجرها ، كيف يصوت في الانتخابات ومتي يخرج علي الحاكم أو لا يخرج. فهددوا بكل هذا التراث ذاكرة الشعوب العربية التي خاضت نضالات من أجل التحديث والتنوير والتنمية منذ عصر محمد علي والطهطاوي . وفي مقابل ذلك أنكر الغرب تماما علي الدول الفقيرة إمكان تحولها بعيدا عن مساراته لخلق مسار جديد للتنمية المستقلة والتحرر الوطني والتقدم ، وربط تلك الشعوب في فلك النظام الرأسمالي ربطا يجعل منه تابعا غير قادر علي تحرير اقتصاده وتحرير سياساته. ثنائية الضعف والسؤال الآن إذا كان الصدام بين رؤيتين استعمارية وأصولية واضحا في تفاصيله فما أهدافه ونتائجه؟ باختصار فإن أهم أهدافه هي تحويل منطق الصراع من صراع اقتصادي اجتماعي بين قوي منتجة وأخري مستغلة - بكسر الغين - وفي هذا النوع من الصراع يتفق الأصوليون مع الغرب- إلي صراع بين قدرة العقل وقيمة النقل ، فيتحول الصراع تحولا هيكليا من صراع اقتصادي إلي آخر ثقافي. أما عن نتائجه فهي متعلقة بتقسيم جديد للعمل بين القوتين المتنافستين فالقوي الغربية الرأسمالية في حاجة إلي سوق استهلاكي كبير مع الحفاظ علي منابع النفط كمحمية اقتصادية وليس للسوق دين.أما القوي الأصولية فهي في حاجة إلي فرد وبيت ومجتمع نمطي يتبع السلف الصالح في سكناتهم وحركاتهم بغض النظر عن اتجاه هذه الحركة مع تعطيل القوي الحية للعقل. إذن يبقي الإنسان العربي في ظل هذه الثنائية الفتاكة عاجزا عن تدبر مستقبله الاقتصادي والسياسي بعيدا عن سلطة السوق الحر وعاجزا عن تدبر مستقبله الاجتماعي والثقافي بعيدا عن سلطة ملاك الحقيقة المطلقة.من هنا فإن ما يبدو من شقاق بين الطرفين ليس سوي شقاق بين فرعين جذرهما واحد.