الانتفاضة الجماهيرية في اسرائيل سلطت الاضواء علي "اسرائيل الحقيقية"، أزاحت جانبا القناع المغشوش لدولة "استثنائية" في تاريخها وحاضرها، دولة لا يجوز ان تطبق عليها معارف علم الاجتماع وقوانين الصراع الاجتماعي الناشئ عن التناقضات الكامنة في بنية كل مجتمع رأسمالي، ولا يسمح بالتعامل معها بمقتضي القانون الدولي، فهي كما تزعم علي الدوام دولة ضحية مهددة بالفناء وبمحرقة جديدة يعدها الفلسطينيون والعرب. جاءت الانتفاضة مفاجئة لداخل اسرائيل، وكذلك بالنسبة للاعلام العالمي، لأن الدعاية الاسرائيلية نجحت لعشرات السنين في الترويج عالميا لفكرة "الدولة والشعب الاستثنائيين". فكيف تنتفض جماهير يهودية، والانكي من ذلك، تنتفض بمشاركة سكان عرب، ضد حكومة اليهود؟ انتفاضة الجماهير في اسرائيل ضد حكم الرأسمال مهمة. فهي انتفاضة ضد الظلم الاجتماعي، ضد حكم طبقة من السياسيين أعلن المنتفضون انها لا تمثلهم، وذلك "في الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط" كما يروج منذ عشرات السنين. وتتجاوز اهمية الانتفاضة المطالب الاجتماعية المرفوعة. اهتزاز الصهيونية لماذا؟ لانها تهز اسس الفكر الصهيوني العنصري الذي يدعي ان دولته تمثل "جماعة قومية متجانسة"، وأن قوميتها مستمدة من الدين، الذي هو اساس نشوء ووجود الشعب اليهودي. الفكر الذي يقترب من فكر القوميين العنصريين الالمان الذين ابادوا الملايين من اليهود. وهو فكرة الأمة التي يتحقق تجانسها الاستثنائي من خلال وحدتها العنصرية. الامة التي يعَرِفُها غلاة الصهيونية كوحدة بيولوجية، والتي يشكل شعبها "جماعة مقاتلة" .. هذا الفكر كان لا بد أن يصل بأمثال الفاشستي ليبرمان بالدعوة صراحة بأنه لا مكان سوي لليهود في اسرائيل. كل حكومات اسرائيل سارت نحو هذا الهدف بسياسة التمييز ضد العرب في الداخل، وبالاستيطان في ما تبقي من مناطق فلسطينية. تحرير إسرائيل ويصبح السؤال ملحا هل ينجح النضال من اجل العدالة الاجتماعية في تحرير اسرائيل من اسر الايديولوجية القومية العنصرية؟ اساس الازمة السياسية الاجتماعية الكامنة التي افصحت عن وجودها في اسرائيل يكمن في العلاقة العضوية بين هذه الايديولوجية السائدة وسلطة الرأسمال. الاعلام الالماني خصوصا الذي تجنب تاريخيا تحليل الاوضاع الداخلية في اسرائيل (الاوضاع الاجتماعية المتدهورة، تفاقم الهوة بين الاثرياء والفقراء، التمييز الثقافي والاجتماعي ضد السكان العرب، الجذور الاقتصادية الاجتماعية والايديولوجية للسياسة الاستعمارية التوسعية، انتشار التطرف القومي العنصري).. هذا الاعلام بدأ الآن بخطوات حذرة للغاية ليكتشف ان اسرائيل دولة مثلها مثل بقية الدول. كتبت (دي تسايت 1/8) "اغلبية اسرائيل الصامتة تنتفض- الطبقة الوسطي تتظاهر ضد الرأسمالية المنفلتة في البلاد، ومشكلة رئيس الوزراء نتنياهو هي انه لا يوجد ما يشير لان الاحتجاجات ستهدأ." وفي مقال للكاتب الاسرائيلي عساف جافرون (سيد دويتشه تسايتونج 9/8) بعنوان "لماذا ستغير الاحتجاجات البلد".. جاء "كثير من الاسرائيليين الذين حكموا علي انفسهم بالصمت لسنوات، وشعروا بأنهم مستبعدون من المناقشات، وظلوا مخدرين، وجدوا صوتهم فجأة ... طوال السنين ظلوا يقولون لهم أن الامر الأهم، إن لم يكن هو المشكل الوحيد، هو الأمن، والصراع مع الفلسطينيين، والتهديد المستمر لوجودنا. وانه كما يقول المثل (عندما تُسمَعُ قعقعة السلاح، تختفي الاهتمامات الاخري)". وعن الموقف من الاحتلال يكتب جافرون "منذ الأيام الأولي للاحتجاج ، ظل الناس يتساءلون عن العواقب المحتملة... وهل ستبلغ هذه الحركة من القوة ما يكفي لتغيير الاغلبيات في المجتمع، وللحد من الهوة بين لأغنياء والفقراء، أو حتي وضع حد للاحتلال وإخلاء المستوطنات بالغة التكلفة في الضفة الغربية؟" مساواة العرب والمعضلة التي تواجه المحتجين هي الخيار بين تسييس الحركة الاحتجاجية بطرح رؤية صريحة للمتغيرات المطلوبة في البنية السياسية، والتي بدونها لا يمكن تحقيق اصلاحات اجتماعية عميقة، وهو الخيار الذي يهدد باحتمال انقسام الحركة لو تجاوزت مطالبها الشعارات التي تلتف حولها اغلبية المجتمع، وبين المراوحة في موقف الاكتفاء بانتظار ان يحل المشاكل من تسببت سياساتهم في صنعها. كتبت اليومية تاتس (14/8) ان حركة الاحتجاجات اتسعت بشدة لانها ركزت علي المطالبة بمزيد من العدالة الاجتماعية "ولكن شيئا فشيئا تتخذ المطالب طابعا سياسيا. في يوم السبت تظاهر عشرات الآلاف في كل البلاد من اجل المساواة في الحقوق بين عرب ويهود اسرائيل. وهذا الاتجاه يحمل في باطنه اخطارا ولكنه ينطوي علي فرص ايضا". الانتفاضة طرحت السؤال المحوري: الي اين والي من تذهب الميزانيات؟ المشكل يكمن في مربع الانفاق العسكري، وتكلفة الاحتلال الاستيطاني، والسياسة الاقتصادية الليبراليية، والتركيبة السياسية الحاكمة. تبلغ نفقات اسرائيل العسكرية نحو 12 مليار دولار (حسب معهد سيبري) وحسب (در شبيجل 10/8) 6.3 مليار يورو سنويا علي الأمن والجيش والشئون المدنية في الضفة الغربية. وبينما جميع دافعي الضرائب في اسرائيل ملزمون بتحمل التكلفة العالية لحماية الاحتلال تذهب عائدات التجارة مع الاراضي المحتلة الي الرأسمال الخاص. ومعظم تكلفة الاستيطان الباهظة تتحملها الدولة. عشرون أسرة ولأن اسرائيل تنفذ ايضا خطط البنك وصندوق النقد الدوليين انخفضت الاجور الحقيقية وازداد الفقر وتضخمت بشكل هائل ثروات الفئات الرأسمالية العليا. الرابح من السياسة الاقتصادية في اسرائيل هي الطغمة المالية التي تتشكل من عشرين اسرة وتسيطر علي اكثر من نصف ملكية الاسهم. ازمة حكومة نتنياهو والتي ستدفع قادتها للاستماتة في تجنب الاستجابة للمطالب الاجتماعية الشعبية هي انها لا تستطيع تمويل اصلاحات دون المساس بميزانية الجيش والامن وبامتيازات المستوطنين واليهود الارثوذكس المتطرفين. وهؤلاء لن يقبلوا التنازل عن امتيازاتهم. وستساندهم الاحزاب القومية اليمينية والاحزاب الدينية. هل التصعيد العسكري في غزة واستفزاز مصر يساعد نتنياهو علي احباط الحركة الشعبية؟ هل تنجح هذه المرة وصفة تسعير الروح القومية لتتركز كل العيون علي "العدو" فتنقسم الجبهة المنادية باصلاحات اجتماعية وديمقراطية؟ صعب علي حلفاء اسرائيل المأزومين اقتصاديا ان يأتوا بهباتهم لتهدئة الشعب الغاضب. ولكن عندما تعلن اسرائيل ان امنها في خطر بسبب هجمات صاروخية وهجمات "الارهابيين" يختلف الوضع. المؤكد ان الاستجابة للاستفزاز الاسرائيلي والتصعيد العسكري الراهن يصب في صالح الطغمة الحاكمة في اسرائيل.